شعر فلسطيني جديد

الكاتب أمجد ناصر ، فلسطين الشعرية ولاَّدة، ولكن على نحو مختلف عما اختطّه جيل شعراء الستينات الكبار، وكذلك عما كانت عليه قصيدة السبعينات المتفجرة بالغضب التي تتصدى الى مهمة تغيير العالم
undefined

أمجد ناصر
 
لأسباب شخصية ومهنية أتابع المشهد الشعري العربي منذ أكثر من ثلاثة عقود، منها عقدان على الأقل في منبر صحفي يومي لا يكلّ عن متابعة الشعر ونشره ولا يملّ، خصوصا الجديد منه أو بدقة أكثر ما ينتجه الجيل الجديد، إذ ليس كل ما تسطره الأقلام الشابة جديدا بالمعنى الإبداعي للكلمة.
 
من بين "الساحات" الشعرية التي تابعت كتابتها عن كثب "الساحة" الفلسطينية التي قدمت في نصف القرن الماضي عددا من أبرز أصوات الشعر العربي الحديث، حتى كادت المدونة الشعرية الفلسطينية تطغى على أيّ مدونة أدبية فلسطينية أخرى، الرواية والقصة مثلا.
 
ولهذا الأمر (كثرة الشعر على ما عداه) أسباب تكشف عن ارتباط القصيدة بـ"القضايا" عموما (والفلسطينية خصوصا) خلال عقديْ الخمسينيات والستينيات، وصولا إلى السبعينيات. أي في الفترة التي يمكن أن توصف بـ"الذهبية" في الشعر الفلسطيني.

غير أن الأمر لم يكن كذلك في عقديْ الثمانينيات والتسعينيات، حيث تراجع -في رأيي- حضور الشعر الفلسطيني في المشهد الشعري العربي. بقيت أسماؤه الكبيرة حاضرة بطبيعة الحال، ولكنه لم يعد يتوافر على اقتراحات جمالية جديدة، ولا "قوة دفع" داخلية أو خارجية، وتحوّل إلى ما يشبه النمط الذي يقولب الإبداع في خانات لا يغامر بالخروج منها.

قيض لي على امتداد السنين العشر الماضية أن أكون مُحكِّما مرتين في جائزة مؤسسة عبد المحسن القطان الشعرية. كانت الأولى عام 2002 والثانية هذا العام، الأمر الذي مكنني من الوقوف على سطح المشهد الشعري الفلسطيني وأحشائه، من خلال المجموعات الشعرية المتسابقة التي وصلت إلى هيئة الجائزة.

قد لا يكون عدد المجموعات اختلف بين دورة عام 2002 ودورة هذا العام، غير أنّ النوع اختلف بوضوح لصالح مجموعات الدورة الحالية.

ففي حين كان من الصعب في دورة عام 2002 التوقف أمام ثلاث مجموعات شعرية متقدمة المستوى لاختيار واحدة منها، فقد وقفت هذه الدورة أمام عدد من المجموعات الشعرية لشاعرات وشعراء شبان، منها ثلاث مجموعات على الأقل، تكاد تكون كل واحدة منها جديرة بالجائزة، هذا فضلا عن السويّة العامة المتقدمة لكثير من الأعمال المتسابقة.

لقد صارت الحياة اليومية ووجود الفرد فيها مختبر القصيدة الفلسطينية الجديدة، كما هو الحال في ما يخص نظيرتها على الصعيد العربي، وهذا لا يعني بالتأكيد قطيعة بين القصيدة الجديدة والقضايا الكبرى

ويتبدّى هذا التطور الذي أزعمه في مغادرة (أفضل أعمال المسابقة هذا العام) لمدونة شعرية نمَّطت "الشعر الفلسطيني"، وحبسته في تصوّر "تقليدي" لعلاقة القصيدة بـالوطن والقضية، وهما هنا، فلسطين تاريخا وواقعا وحلما.

لقد استقرّ في الذائقة الفلسطينية والعربية نمط شعري يكاد يكون خاصا بالقضية الفلسطينية، حتى صار بالوسع أمام استفحال هذا النمط وتمكّنه استعارة قولة محمود درويش الشهيرة (معكوسةً هذه المرة): أنقذونا من هذا الشعر!

ولا يمكن بالطبع فصل القصيدة الفلسطينية عن القصيدة العربية من حيث ما تعرفه من "هموم" تطال الموضوع والشكل، ولعل استجابة القصيدة الفلسطينية (بل مبادرتها في بعض الأحيان) لتبني أشكال تجريبية خير دليل على تراجع القصيدة/النمط لصالح القصيدة التي تخوض في شؤون الحياة اليومية، بما هي عليه من استحقاقات تتعلق بقضية الوطن أو بالحياة الفردية، بلا شعارات موجِّهة أو إيديولوجيا مسبقة.

لقد صارت الحياة اليومية ووجود الفرد فيها مختبر القصيدة الفلسطينية الجديدة، كما هو الحال في ما يخص نظيرتها على الصعيد العربي، وهذا لا يعني بالتأكيد قطيعة بين القصيدة الجديدة والقضايا الكبرى (بما فيها قضية الوطن والاحتلال)، بل يحدوني الاعتقاد أن هناك مقاربة أخرى (بمعجم ورؤى مختلفة) للصراعات الأساسية التي يعيشها مواطنون يحاصرهم الاحتلال من كل جانب.

نبرة جديدة
من بين المخطوطات الثلاث والعشرين التي أرسلتها إلي هيئة الجائزة في رام الله لفتت نظري بقوة بضع مجموعات شعرية لشعراء شبان، متقاربة المستوى والنوعية، أبرزها -من وجهة نظري- التالية: "ماذا لو كنا أشباحا" لسمر عبد الجابر، و"الرابعة فجرا في السوق" لطارق العربي، و"توارى في التأويل" ليوسف القدرة.

وقد تقاسم العملان الأولان جائزة الشعر هذا العام، وتمَّ التنويه بالعمل الثالث، إضافة إلى عمل آخر هو "سفر ينصت للعائلة" لعلي أبو عجمية، والتوصية بنشرهما.

هناك في الواقع مشتركات بين هذه المجموعات الثلاث (وبضع مجموعات غيرها) أوضحها هو مغادرتها -كما أسلفت- لـ"نمط" شعري فلسطيني ساد في فترة صعود النضال الوطني الفلسطيني (وذروته الثورة الفلسطينية المسلحة)، بما يلحظه ذلك "النمط" من معجم ودلالات وثيمات أثيرة تحيل إلى فلسطين قضية ووطنا وحلما.

لكن هناك اختلافات بين هذه المجموعات في مقاربتها لموضوعها الشعري. وسألقي هنا أضواء سريعة على المجموعات الشعرية الثلاث الأبرز في مسابقة هذا العام.

لا تكتفي مجموعة "ماذا لو كنا أشباحاً" بمراقبة الذات والعالم بل تنظر إليهما من خلال عين تتأمل ما يجري في العالم الخارجي وما يفتعل في داخل الذات، وبهذا تعطي لليومي والشعوري بعداً تأمليا

ماذا لو كنا أشباحا
هذا عمل شعري للشاعرة الفلسطينية الشابة سمر عبد الجابر يتقدم إلينا عاريا -تقريبا- من البلاغة المألوفة والاشتغال "الواضح" على القصيدة حتى لتبدو القصيدة ثمرة "سليقة" شعرية شبه فطرية.

الشعرية تتحقق هنا من خلال الحالة أو الشعور الذي تطرحه القصيدة أو تحققه عبر التلقي، وليس من خلال الكلمات والصور، فهذه الأخيرة تكاد تتوافر بالحدود الدنيا التي لا بدّ منها للكتابة.

هذه السيولة التعبيرية، ولكن المنضبطة لغويا وعاطفيا، والتعامل مع العالم من خلال خبرات ذاتية وتحويل القضايا الكبرى -حيث وجدت- إلى تجارب شخصية، واقتراب القصيدة من الكلام اليومي من دون أن تقع في ثرثرته، عناصر لافتة تميزها عن غيرها من المجموعات الشعرية الأخرى.

تشتغل مجموعة "ماذا لو كنا أشباحا" على مشاعر وشؤون شخصية جدا تبدو كأنها رسائل بوح، ولكن من دون أن تقع في الميوعة العاطفية أو التفجع. هناك حدس داخلي ومعرفة بالحدود الفاصلة بين البوح المنضبط والثرثرة العاطفية يبقيان القصيدة في الحيِّز المتوتر للشعر، رغم ما تبدو عليه من نثرية فائضة أحيانا.

ورغم ما تنطبع به المجموعة من ميل إلى اليومي، فإن خيطاً من التأمل وراء الحادثة اليومية أو الشعور الشخصي البحت يميز هذا "اليومي" هنا، عما هو رائج في قصيدة النثر العربية اليوم من إغراق في التفصيلي.

لا تكتفي مجموعة "ماذا لو كنا أشباحاً" بمراقبة الذات والعالم، بل تنظر إليهما من خلال عين تتأمل ما يجري في العالم الخارجي وما يفتعل في داخل الذات، وبهذا تعطي لليومي والشعوري بعداً تأمليا.

الرابعة فجرا في السوق
تشكل هذه المجموعة الشعرية لطارق العربي مع مجموعة "ماذا لو كنا أشباحاً" لسمر عبد الجابر، نوعا من التكامل إن جاز التعبير بين ما يشبه العفوية والسيولة التعبيرية والنثرية اليومية (ماذا لو كنا أشباحا)، وبين القصيدة المحكمة البناء ذات المسحة الغنائية الواضحة التي تقربها من التلقي العام، بسبب ثقل الذاكرة الغنائية التي أثثها الشعر العربي الحديث (التفعيلة، محمود درويش تحديدا) في الذائقة العربية المعاصرة.

هاتان المجموعتان تقدمان وجهين مختلفين من الشعرية الفلسطينية الشابة، الوجه الذي يواصل التقليد الغنائي الذي أرساه درويش، وتجده على نحو خفيض في مدوَّنة غسان زقطان، والثاني الذي ينفتح على اقتراحات جمالية ترمي إلى تحقيق الشعرية من خلال النثرية والكلام شبه اليومي.

تطفح مجموعة "الرابعة فجرا في السوق" بشؤون الرغبة. المرأة حاضرة تقريبا في كل أركان هذه المجموعة، بل لا يمكن تصور بواعث هذه القصائد -على ما يبدو- من دون أن تلوح لنا المرأة أو شؤونها. إنها تتخلل كل جوانب الحياة.

المجموعة -بهذا المعنى- هي احتفاء بالمرأة والحب والرغبة يتواصل من قصيدة إلى أخرى في لغة ذات صفاء ملموس، وفي إطار قصيدة محكمة البناء، بالأخص في القصائد القصيرة.

ولكن من بوابة "الشخصي" -قاموسا ومشاغل وصلات- يحضر "الشأن العام" (فلسطين)، فهو مرتبط بأشخاص وأمكنة مقرونة دائما بأخبار وتفاصيل من الذاكرة التي تعيد "توضيب" هذا الشأن بمسحة واضحة من الحنين.

ثمة أصداء قادمة من تجارب شعرية فلسطينية وعربية، ولكن ذلك لم يجعل من المجموعة مجرد علبة أصداء لتجارب سابقة أو راهنة متحققة في المشهد الشعري العربي.

مجموعة "توارى في التأويل" تعكس -رغم هديرها اللغوي الطائش أحيانا- علاقة جيدة بالكلمات، وتمكّنا من معجم لغوي ثري يحتاج انضباطا، وإحساسا شعريا قويا بالعالم الذي تخوض فيه

توارى في التأويل
تقدم هذه المجموعة للشاعر يوسف القدرة وجها آخر من وجوه الشعرية العربية الحديثة القائمة أساسا على اللغة، رغم التراجع الملحوظ لهذا الاتجاه الشعري في السنين الأخيرة لصالح ما يمكن أن نسميه "اللغة اليومية" المتخففة من ثقل المعجم التراثي.

هنا ولع واضح باللغة يتم في كثير من الأحيان على حساب المعنى، فتبدو اللغة كأنها مقصودة لذاتها، خصوصا في القسم الأول من المجموعة الذي يتخذ شكل كتلة نثرية كاملة.

تحتاج تجربة يوسف القدرة إلى انضباط لغوي ومجازي أكثر مما فعلت، فالحرية في التعامل مع المجاز، أو محاولة تخطي "تقليديته" لا تعنيان العشوائية والطيش (أذهب بعيدا في زرقة يتركها عضّ متوعد!، السؤال عالق بين حاجزين من نايات مفخخة بالحزن!، على سبيل المثال لا الحصر).

فهذه المجموعة الشعرية تعكس -رغم هديرها اللغوي الطائش أحيانا- علاقة جيدة بالكلمات، وتمكّنا من معجم لغوي ثري يحتاج انضباطا، وإحساسا شعريا قويا بالعالم الذي تخوض فيه.

فلسطين الشعرية ولاَّدة، ولكن على نحو مختلف عما اختطّه جيل شعراء الستينيات الكبار (على رأسهم درويش)، وكذلك عما كانت عليه قصيدة السبعينيات المتفجرة بالغضب التي تتصدى لمهمة تغيير العالم!

المصدر : الجزيرة