بيان الحساسية الجديدة: تجربة شعرية شوّشت على الهوية الجيلية وواجهت العالم بغضب!

مسار جدلي

يكشف مسار الشعر المغربي الحديث منذ بدايات الستينيات عن منعطفات الهويّة الكتابية، في رهانها على التعدد والاختلاف، ولم تكن ثمة قطائع حاسمة بينها، بل بالأحرى هي تجارب متصلة ومتواشجة، لكن ضمن سيرورة معقدة وكثيفة لا تتماشى ونظام الخطية والتتابع دائما. فكل جيل من أجيال هذا الشعر، بل كل شاعر داخل الجيل الواحد، هو غير منفصل في هذا السياق عن شرطه وأوضاع وجوده، وبالتالي تعيش تلك الهوية بصيغة الجمع، من جيل إلى جيل، ومن شاعر إلى شاعر، حالات تأثير وتأثر. وإذن، فإنّ الهوية المتعددة التي تدلُّ على الصراع والتجاذبات وأشكال البحث عن غير المكتمل، هو ما يعطي للشعر المغربي قوّته وحضوره المُتجدّد في كل الأزمنة. ويساعدنا بحث المسالك والعلامات والتجليات التي ارتبطت بتحوُّلات هذا المسار، على تبيُّن «لحظات» هذا الشعر الكبرى، على نحو يكشف لنا بمصطلحات الهوية وتكوُّنها ما يلي:
ـ شعر بلاغة التقليد التي ينتمي إلى الحركة الكلاسيكية الجديدة التي وجدت الصيغة الشعرية المتقنة في الشعر القديم، وفي جمالياته الكبرى، وكان القاسم المشترك بين شعرائها هو الوقوف في وجه المستعمر بشكل صريح، واستحضار الماضي المجيد لإدانة الحاضر.
ـ شعر بلاغة التأسيسات التي عنت بالشكل الجديد، وأوجدت صيغا جديدة ومقترضة للتعبير عن الواقع السياسي والاجتماعي عبر سياسات الالتزام، إذ قامت في تحديثها للمضمون الشعري على الأيديولوجيا العلمانية، سواء في نقدها للواقع الذي كان مخيّبا للآمال بعد هزيمة 1967 داخل نزوعها القومي، أو في خضم التداعيات المدمرة لما عُرف بـ(سنوات الرصاص).
ـ شعر بلاغة المغايرة والاختلاف، التي قطعت مع الماضي ومع التوظيف الشعاري- الأيديولوجي للشعر، إذ أصبحت مطالب قصيدة النثر والشعر الصوفي أو المبادرات التجريبية، التي اهتمّت بصيغ الكتابة الشعرية جزءا لا يتجزأ من المجهود العام لهذه البلاغة الخاصّة.
ويجدر بنا اليوم أن نتحدث عن لحظة رابعة؛ هي شعر الحساسية الجديدة التي شوّشت على «الهوية الجَيْلية» لأن من مشترطات أي جيل كان، ليس فقط تقارب أعمار شعرائه ونهلهم من تجربة تاريخية معينة وخضوعهم لتربية ثقافية متجانسة؛ بل توافر بعض المواصفات الشكلية، لكن الحاسمة، التي تلحم أكثر وحدة المجموعة وتسند انتماءها إلى مدار شعري مخصوص، وهو ما لا يتوافر في نصوص الحساسية، التي جمعت تحتها أمشاجا من مشارب شتى، إلا أنها مع ذلك عززت الخيار التحديثي، الذي أطلقه جيل الثمانينيات إلى غير رجعة، ولاسيما داخل مقترحات قصيدة النثر، التي اكتسبت شرعيتها إبداعيا أكثر من ذي قبل. وفي العموم، فهي تجربة جديدة لم تكن لتجبُّ ما سبقها، بل هي تراكم لتجارب متتالية في سيرورة تحديث القصيدة المغربية الحديثة.

الحساسية الجديدة

نشأت هذه الحساسية في عقد التسعينيات ضمن ما كان يُصطلح عليه بـ»التجربة الشعرية الجديدة» ثم اتسع مداها كمّا ونوعا في سنوات الألفية الثالثة، ويستعصي أن نجمع أفرادها داخل جيلٍ أو نحجرهم على تصنيف عقدي كما كان جاريا من قبل، بسبب ما خلقته نصوصهم من جمالياتٍ كتابية مغايرة، عكست فهما جديدا لآليّات تدبُّر الكيان الشعري. فهذه التجربة لم تكن لتجبُّ ما سبقها، بل هي تراكم لتجارب متتالية في سياق القصيدة المغربية الحديثة وتطوُّر إحداثيات بنائها المعماري، بقدر ما هي تجاوزٌ لها. إنها ممتدّة بصمت، وأوسع من أن تتأطّر داخل مفهوم مغلق ونهائي مثل مفهوم الجيل، فما فتئت تكشف عن أثر التغيُّر الذي يحدث باستمرار، وترفض أن تحجبها المعاصرة. وهكذا، فإنّ الارتباط بعامل الزمن لا يعني لنا من قيمة إلّا بمدى قيمة الأشخاص المتحرّكين داخله، ودرجة حضورهم فيه. تكشف الحساسية عن معنيين مترابطين: عن كونها كناية عن اختلاف في تشكُّلات الرؤية الإبداعية، أو في تصوُّرها لأفق الكتابة الشعرية، في سياق ما خلقته اقتراحات الشعراء الجدد النصية والجمالية، وما صارت إليه رؤاهم المختلفة إلى الذوات والأشياء؛ إذ انزاح النفر الكبير منهم إلى الرؤيا التي تُعنى باكتشاف العالم ومواجهته، عوضا عن الموقف المباشر من السياسة والأخلاق والقيم. ثم كونها تظهر حبلى بالانعطافات التي تحفز شعراءها على التحرّك الدائم في جسد التجربة وأخاديدها، وهم لا يرهنون ذواتهم لأيديولوجيا، أو ينضوون تحت يافطة بارزة. لكن من المُهمّ كذلك أن نشير -هنا- إلى أمرين رئيسين:
أ- إنّنا ننظر إلى الحساسية الجديدة باعتبار ما تُضيفه إلى منجز الشعرية المغربية؛ لأن هناك ـ في المقابل- ارتداداتٍ ما تتمثل في عودة مظاهر التقليدانية وتقريظ المنحى الإنشادي والمرددات المسكوكة للقصيدة.
ب- يُساء فهم عبارة (الحساسية الجديدة) وقد تبدو مهينة لدى البعض، لأنهم يعتقدون أن هذا التوصيف يتضمن إلغاء أو تشويشا على «الشعر كما كتبه السلف» قديمه وحديثه. لا شك في أن هناك تجديدا في الكتابة الشعرية منذ بدايات التسعينيات، ولا ينحصر هذا التجديد في مجلة أو في جماعة أو في أفراد ملهمين من أرض دون غيرها. فقد استفاد ممثّلو الحساسية الجديدة من أسلافهم الذين كان حضور بعضهم لامعا وغير متوقع، وأنا مصرٌّ على التنويع بهم. كما استفادوا من أسلاف أقل شهرة وتجديدا غير أنّهم ساهموا بدورهم في التعريف بالشعر والانتصار له في زمنهم، بل الأخطر في الأمر، والأكثر دلالة بحقّ، هو أن تجد من الأسلاف من لا يزال قادرا على التجدد باستمرار، وهو ما كان يمثّل عامل تحفيز حقيقي لـ»حساسية جديدة» ما كانت لترسخ لولا استبصارهم وتسامحهم ونفاذ رؤيتهم. ويمكن أن نذكر من شعراء هذه الحساسية، تمثيلا لا حصرا: مبارك الراجي، أبو بكر متاقي، عمر بنلحسن، يونس الحيول، محمد أحمد بنيس، محمد بشكار، مصطفى ملح، منير الإدريسي، عبد الرحيم الخصار، كمال أخلاقي، عبد الجواد العوفير، نجيب مبارك، محمد أنوار محمد، محمد بلمو، إبراهيم ديب، مصطفى الرادقي، رشيد منسوم، عبد الهادي السعيد، الكنتاوي لبكم، فؤاد شردودي، سعيد السوقايلي، أحمد هلالي، عبد الهادي روضي، صالح لبريني، المعتمد الخراز، عبد الله بن ناجي، محمد العناز، رشيد الخديري، حسن بولهويشات، عبد الجواد الخنيفي، إبراهيم الكراوي، عز الدين بوركة، ولفيف من المهجريّين. ومن الشاعرات نذكر: أمل الأخضر، إيمان الخطابي، علية الإدريسي البوزيدي، إكرام عبدي، صباح الدبي، ليلى بارع، نسيمة الراوي، فدوى الزياني، سكينة حبيب الله، غادة الأغزاوي، نعيمة فنو، عائشة بلحاج، إلخ.

جماليات مختلفة ومتعارضة

وإذا نحن طالعنا كتابات هؤلاء الشعراء ابتداء من أواسط التسعينيّات وعبر سنوات الألفية الجديدة، جاز لنا أن نستقرئ السمات الشعرية الأساسية التي ترتدّ إليها، ومن ثمّة وقفنا على حجم المغامرة التي ارتادوها بما تنطوي عليه من رهانٍ على الاختلاف والتعدُّد، وأهمّها:
* الانهمام بالذات في صوتها الخافت والحميم، وهي تواجه بهشاشتها وتصدُّعها الأشياء والعالم واختلاطات الحياة اليومية، بدلا من معضلات المجتمع وهواجسه الحرّى. وقد ترتّب على ذلك تذويت الملفوظ الشعري وشخصنة الموضوعات والصور والمواقف من الذات والكتابة والوجود.
* بروز رؤى شعرية متعددة تعكس في مجملها إمّا وضع الاغتراب واليأس والحزن التي تتملّك الذات، أو استقالة الذات من الواقع ونفض اليد عن إلزاماته وحاجياته، أو الرغبة الطافحة بالحب والأمل في إعادة صياغة الحياة والتحرُّر من القيود، أو التوق لتحقيق التوحُّد مع المطلق: رؤية غنائية، نهلستية، سريالية، إشراقية..
*إعادة النظر في مستويات تشكُّل دوالّ الكتابة الشعرية الجديدة بأضلاعها البلّورية، وذلك في سياق الإقبال على قصيدة النثر والانتساب لها؛ بل إن هذه القصيدة بدت كأنّها وسيلة تعبير الأكثرية حتى لمن هم خارج تصنيف الشعراء، بعد أن حظيت بحظوة الإعلام والمصاحبات النقدية، واصطفاف المريدين وإقبالهم عليها بوعي وغير وعي. وذلك مثل:
*النزوع المستمرّ إلى بساطة القول الشعري؛
* الانفتاح على السرد وجماليّاته البانية؛
*انفتاح القصيدة على جملة من اللغات الذرائعية التي يتيحها الإعلام والسينما والإشهار والأغنية والسياسة والتداول اليومي والمرددات المسكوكة.
*الاعتناء بكتابة الشظايا وأسلوبها فقراتها الشذري، ولاسيما تحت تأثير قصيدة الهايكو؛
*إدخال اللغة الشعرية في شبكة علائق معجمية ونظمية وتخييلية غير مألوفة، وهو ما أعاد النظر في نُظُم بناء الدلالة وطرائق شعرنتها؛
*المزج بين الوزني والنثري في بناء المعمار الإيقاعي للنص، بقدر ما التفكير في الصفحة الشعرية داخل مكوناتها عبر الاشتغال على الدالّ النصي والمراهنة عليه والتسلّي معه، أيقونيّا وعلاماتيّا.
*الاهتمام بهوامش الجسد الأنثوي وفضّ مسمياته المختلفة، من خلال رؤى متنوّعة ودالّة، وداخل صيغ أسلوبية تراوح بين الرومانسي والإشراقي والسريالي.
وقد صار بعض هذه الجماليات أكثر بروزا، بعد أن كان متواريا خلف أساليب الرمز والتجريد، وبعضها الآخر مثّل إضافات نوعية لما تمّ تدشينه سابقا، ولاسيما مع شعراء الثمانينيات؛ فيما هناك خصوصيّات لا تزال رهن مُتخيَّلٍ محفوزٍ يهزُّ تربة الدال الشعري ويوسع ممكناته.
إذا ألمحنا إلى أنّ هذه التجربة الشعرية الجديدة يقرب عمرها الرمزي نحو العقدين، فهذا مما يقوّي الاعتقاد بأنّ ملامح حساسيّتها الفنية لا تزال غير مكتملة؛ فهي تتدفّق باستمرار، وتقف على ميدان إثبات ذاتها في مواجهة هيمنة السلط والكليشيهات التي تراوح في ميدانها وتنسجم مع ماضيها الخاص. إنّ ثمة عسفا يقع على كاهل التجربة لأسباب غاية في التعقيد؛ فقياسا إلى حركة الشعر الحديث التي بدأت بعد استقلال المغرب، وما رافقها من اهتمام وسجال مُطّردين، لم تتوفر للتجربة الجديدة حركة نقدية موازية وقادرة على تفهُّم طبيعة التجربة ومغامراتها، بما لها وما عليها في آن. إنها تحتاج راهنا إلى «براديغم» جديد بوصفه تمثُّلا إجرائيّا يسعفنا في تحديد هُويّاتها الكتابية، وما أضافته على ضوء الملموس وممكناته ووعي شعرائها به، وذلك على غرار ما أتيح للنُّقود المُؤسِّسة داخل تاريخ الشعرية المغربية الحديثة.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية