عبدالله البردّوني شاعر اليمن الفاقد البصر الحاضر البصيرة

نظم قصيدة عن الغزو العراقي للكويت في الأسبوع الأول من أحداث 1990

نشر في 01-08-2017
آخر تحديث 01-08-2017 | 00:03
لم يمنع فقدُ البصر الشاعرَ عبدالله البردّوني المتوفى في أغسطس عام 1999 من التألق على الساحة الشعرية العربية، بل زاده تصميماً لبلوغ هدفه.
وأحرز البردوني جوائز مهمة في مشواره رغم وجود شعراء كبار في عهده، ومنهم نزار قباني ومظفر النواب ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم.
وخلال أشهر المهرجانات الشعرية في السبعينيات في مدينة الموصل بالعراق استطاع البردوني بشعره الأجعد وآثار مرض الجدري التي تكسو وجهه أن يحصد النجاح من كل أطرافه، لاسيما حينما قرأ قصيدة «أبو تمام وعروبة اليوم»، التي يعارض بها قصيدة الشاعر العباسي أبا تمام، فكان هذا النص بداية شهرته عربياً، وأدهش الجمهور بحضوره الآسر.
أبصر الشاعر عبدالله البردوني النور في عام 1929 في قرية البردون باليمن، وعقب مرور ستة أعوام أصيب الطفل عبدالله بالعمى بسبب مرض الجدري الذي سكن في جسده النحيل، ومع ذلك لم يستسلم الصغير للمصاعب التي غرست مخالبها في جسده وسلبته نور عينيه، فلم تنحنِ هامته ولم يكل ساعده بل فرد أجنحة البصيرة ورفرف محلقاً في سماء العزيمة الفولاذية والإرادة القوية.

وبدأ البردوني تلقي تعليمه في قريته وهو في السابعة، وبعد عامين انتقل إلى قرية "الملة عنس"، ثم انتقل إلى مدينة ذمار وهناك التحق بالمدرسة الشمسية، وعقب بلوغه الثالثة عشرة بدأ يتذوق الشعر وهام في مشاربه المتنوعة واستزاد من الدواوين القديمة وانكب يحفظ ما يروق له وينظم ما تجود به قريحته، ولاحقاً انتقل إلى صنعاء حيث درس في جامعها الكبير، ثم انتقل إلى دار العلوم في مطلع الأربعينيات وتعلم كل ما أحاط به منهجها حتى حصل على إجازة من الدار في "العلوم الشرعية والتفوق اللغوي".

أول ديوان

وصدر له أول ديوان شعري عام 1961 وكان بعنوان: "من أرض بلقيس"، ثم توالت مؤلفاته ودواوينه الشعرية وكتاباته العامة. وتولى مهمة إعداد أشهر برنامج إذاعي ثقافي في إذاعة صنعاء "مجلة الفكر والأدب". وكان الراحل من أول الذين سعوا لتأسيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وانتخب رئيساً للاتحاد في المؤتمر الأول.

ثائر عنيف

ارتبط الراحل بالشعر الثوري فلم يكن يلجأ إلى المهادنة بل كان سيل شعره ناقداً وبشدة لكل الظواهر التي لا تروق له، فصاحب هذه الصفات لابد أن يصطدم بالسلطة فزجّ بالسجن في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي.

وعن ليالي السجن يقول:

نزلتْ ليالي السجنِ بين جوانحي

فحملت صدري للهمومِ ضريحا

وجثتْ على قلبي كأنّي صخرة

لا تفهمُ التنويهَ والتلميحا

فدفنتُ في خفقِ الجراحِ تألّمي

حيّا وألحدتُ الأنينَ صحيحا

وحملتُ دائي في دمي وكأنّني

في كلّ جارحةٍ حملتُ جريحا

لم يكن الراحل ظلالا لأي تجربة شعرية بل كان صوتاً مختلفاً جاء مجدداً متجاوزاً التقاليد في الشكل الكلاسيكي للقصيدة، وارتبط بحب الناس ونقل معاناتهم، فلم يكن يكترث لسجنه أو إبعاده من منصبه مديراً لأذاعة صنعاء، بل كان ينحاز للناس البسطاء ويعبر عنهم بلسانه وشعره.

وتقديراً لجهده المبذول تجاه الآخرين وقدرته على قهر التحديات التي تلبدت فيها سماء حياته، أصدرت الأمم المتحدة عملة فضية عليها صورته عرفاناً منها وتأكيداً للدور الكبير الذي قام به البردوني، لاسيما أنه بدأ بإصلاح ذاته قبل مطالبة الآخرين بالإصلاح.

الغزو الصدامي

ومن المواقف التي يستذكرها التاريخ دائماً مع اقتراب ذكرى الغزو العراقي للكويت، موقف الشاعر البردوني منذ الأسبوع الأول في شهر أغسطس 1990 إذ كتب البردوني قصيدة "تميمية تبحث عن بني تميم" التي تتناول الغزو الصدامي للكويت ويصور حجم الكارثة الإنسانية التي لحقت بالأمة العربية بسبب هذا الاجتياح للأراضي الكويتية.

صوت شعري بارز

وفي سياق البحث والدراسة، يرصد الباحث محمد علي حيدر التطور الدلالي في شعر عبدالله البردوني ويقول ضمن هذا الاتجاه: "لقد شكل البردوني صوتاً شعرياً متميزاً له حضوره على الساحة الأدبية العربية، فقد تصدرت أشعاره، ومازالت، المشهد الشعري العربي وانتشرت بين المتلقين بمجرد ظهورها انتشار النار في الهشيم، وبدا واضحاً أن الشاعر يمتلك مميزات خاصة جعلت منه صوتاً شعرياً بارزاً، فهو يكتب القصيدة الكلاسيكية القائمة على المفارقة الساخرة، وعلى الوضوح الذي لا غموض فيه ولا التواء، وكأنه يسلك من خلال ذلك مسلكاً شعرياً له دلالاته الخاصة".

المضامين الحديثة

تسعى الدراسة إلى رصد تطور قصيدة الشاعر عبدالله البردوني منذ بداية تجربته الفنية حتى مجموعته قبل الأخيرة التي صدرت عام 1991 م، فالبردوني الذي التزم البنية التقليدية لموسيقى القصيدة العربية، حافظ على أصالته الفنية، وتفرده، فلم تكن قصائده عالة على مثيلات لها من الشعر العربي القديم برغم تواصله مع الموروث الأدبي، وإفادته منه، بل استطاع أن يثبت قدرة الأوزان على احتواء المضامين الحديثة التي برزت من خلال تجديد عناصر الشكل الأخرى كاللغة والصورة فكان شاعراً مجدداً أضفى على قصائده كل ما اتسمت به القصيدة العربية الحديثة، بصرف النظر عن موسيقاها، من ملامح تجديدية، بل انه قد ذهب إلى أبعد من ذلك حين طوع لغة الحوار اليومي لقصيدته، يفجر ما في هذه اللغة من طاقات إيحائية تتجاوز مجال الاستعمال العامي الضيق، كما كان يكثر من الاشتقاقات اللغوية الخاصة التي يثري بها لغته.

المعاناة الإنسانية

ويهدف الباحث إلى تسليط الضوء على التطور الفني والموضوعي للقصيدة الحديثة في اليمن، إذ يعد البردوني أبرز شعراء اليمن منذ ثورة سبتمبر 1962م. وظف شعره لتصوير معاناة الإنسان في اليمن، فأتت قصائده تعبيراً عن تجارب إنسانية عامة، يجمعها إحساس الفرد بالاستلاب، والاغتراب النفسي الناجم عن القمع والزيف وفساد القيم.

ويطرح البردوني هذه القضايا، برغم خطورتها، بجرأة قلما نجدها عند غيره وبأسلوب ساخر متهكم يفضح سلبيات الواقع مديناً النظام الحاكم، وكثيراً ما كان يتجاوز الواقع في اليمن إلى الواقع العربي عامةً.

موقف بين الشاعرين نزار قباني وعبدالله البردوني

من المواقف التي لا تبرح الذاكرة حينما يستمع المرء إليها أو يقرأها، ما نشرته الأديبة أحلام مستغانمي ضمن صفحتها عبر مواقع التواصل عما دار بين الشاعرين نزار قباني وعبدالله البردوني أثناء حضورهما مهرجان جائزة "أبو تمام" في إمارة الأدب والثقافة والشعر العربي بمدينة الموصل بالعراق.

وتتلخص الحكاية في أنه بعد انتهاء قراءة الشاعر البردوني قصيدة "أبوتمام وعروبة اليوم"، ونالت استحسان الحضور، حرص الشاعر نزار قباني إلى الذهاب إلى حيث كان البردوني يجلس وقال له: نعتذر يا أستاذ عبدالله لأننا قرأنا قصائدنا وأنت بحضرتك!

فرد البردُّوني: ولماذا تعتذر؟!

فأجاب نزار: لأنك قلتَ كل ما نريد أن نقوله ولم نقدر.

فسألهُ البردُّوني: من أنت؟

قال: أنا نَزار.

فقال له البردُّوني: قل نِزار لا نَزار، لأن النَّزر هو الشيء القليل.

ضحك نزار ثم قال: اليوم عرفت اسمي.

صنعاني يبحث عن صنعاء

هذي العمارات العوالي ضيّعن تجوالي... مجاني

حولي كأضرحةٍ مزوّرة بألوان اللآلي

يلمحنني بنواظر الإسمنت من خلف التعالي

هذي العمارات الكبار الخرس ملأى كالحوابي

أدنو ولا حرفتي أبكي ولا يسألن: مالي

وأقول: من أين الطريق؟ وهنّ أغبى من سؤالي

كانت لعمّي ها هنا دار تحيط بها الدوالي

فغدت عمارة تاجر (هندي) أبوه (برتغالي)

وهناك حصن تامر كان اسمه (دار الشلالي)

وهناك دار عمالة كان اسمها (بيت العبالي)

وهنا قصور أجانب غلف كتجّار الموالي

دواوين شعر وإصدارات متنوعة وأعمال غير مطبوعة

تميز الشاعر الراحل عبدالله البردوني بتنوع إصداراته بين الشعر والنقد وقدم إلى المكتبة الثقافية العديد من الإصدارات ومن دواوينه: "من أرض بلقيس" (القاهرة، 1961م)، "في طريق الفجر" (بيروت، 1967م)، "مدينة الغد" (بيروت، 1970م)، "لعيني أم بلقيس" (بغداد، 1972م)، "السفر إلى الأيام الخضر" (دمشق، 1974م)، "وجوه دخانية في مرايا الليل" (بيروت، 1977م)، "زمان بلا نوعية" (دمشق، 1979م)، "ترجمة رملية لأعراس الغبار" (دمشق، 1981م)، "كائنات الشوق الآخر" (دمشق، 1987م)، "رواغ المصابيح" (دمشق، 1989م)، "جواب العصور" (دمشق، 1991م)، "رجعة الحكيم ابن زايد" (بيروت، 1994م).

ومن أعماله النقدية: "رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه" (1972)، "قضايا يمنية" (1977)، "فنون الأدب الشعبي في اليمن" (1982)، "الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية" (1987)، "الثقافة والثورة" (1989)، "من أوّل قصيدة إلى آخر طلقة: دراسة في شعر الزبيري وحياته" (1993)، "أشتات" (1994)، "اليمن الجمهوري" (1997). إضافة إلى ذلك، للبردوني 5 أعمال غير مطبوعة، هي، "رحلة ابن من شاب قرناها" (ديوان شعر)، و"العشق على مرافئ القمر" (ديوان شعر)، و"العم ميمون" (رواية)، و"الجمهورية اليمنية" (كتاب)، إضافة إلى، "الجديد والمتجدّد في النقد الأدبي" (دراسة).

جوائز دولية

خلافاً للأوسمة التي تقلدها، والجوائز المحلية التي حصدها، نال البردوني، عدداً كبيراً من الجوائز العربية والدولية، نذكر منها جائزة "أبوتمام" بالموصل، العراق، عام 1971م. وفي عام 1981م، نال البردوني جائزة "شوقي" بالعاصمة المصرية القاهرة. ونال في العام التالي جائزة الأمم المتحدة "يونسكو" والتي أصدرت عملة فضية عليها صورته كمبدع من ذوي الاحتياجات الخاصة تجاوز العجز، وحصد جائزة مهرجان "جرش" الرابع بالأردن عام 1984م، ثم جائزة "سلطان العويس" بالإمارات العربية المتحدة عام 1993م. ونظراً إلى تميز هذا الشاعر قدم الباحثون مجموعة دراسات تعنى بمنتجه الأدبي فكانت هناك دراسات من مختلف أقطار الوطن العربي ومنها:

• "البردوني شاعراً وكاتباً" لطه أحمد إسماعيل (رسالة دكتوراه، القاهرة).

• "الصورة في شعر عبدالله البردوني"، د. وليد مشوح (سورية).

• "شعر البردوني"، محمد أحمد القضاة (رسالة دكتوراه، الأردن).

• "قصائد من شعر البردوني"، ناجح جميل العراقي.

ولم يقتصر الأمر على الدراسات والبحوث بل ترجم عدد من أعمال البردوني إلى لغات عالمية، منها:

• عشرون قصيدة مترجمة إلى الإنكليزية في جامعة "انديانا" في الولايات المتحدة.

• "الثقافة الشعبية" مترجمة إلى الإنكليزية.

• ديوان "مدينة الغد" مترجم إلى الفرنسية.

• "اليمن الجمهوري" مترجم إلى الفرنسية.

• كتاب بعنوان "الخاص والمشترك في ثقافة الجزيرة والخليج"، مجموعة محاضرات بالعربية لطلاب الجزيرة والخليج، ترجم إلى الفرنسية.

أول ديوان شعري صدر له عام 1961 وكان بعنوان «من أرض بلقيس»

في السادسة أصيب بالعمى بسبب مرض الجدري

الباحث محمد علي حيدر يرصد التطور الدلالي في شعر عبدالله البردوني
back to top