ظاهرة الاغتراب في شعر عبدالله البردوني.. ( دراسة اسلوبية ) #اليوم_الثامن #بالثبات_والاراده_الجنوبيه_ننتصر #ارادة_الجنوب_هي_العليا

يعد الشاعر عبد الله البردوني أبرز الذين مثلوا ظاهرة الاغتراب فقد كان ذا إحساس مرهف في تحمّل قضايا واغترابات أمته وهمومه، فاغترابه لم يكن نزوحًا عن الوطن أو مفارقة للأهل والأحباب والسكن، إنما كان اغترابه داخل وطنه وبين أهله ومجتمعه، وكذلك لم يكن اغترابه فرديًّا فحسب، بل كان اغترابًا جمعيَّا وطنيًّا وقوميًّا، فقد ترعرع في مجتمع يعيش تحت وطأة الاستلاب في الحرية والتفكير، وعانى التناقض القيمي بينه وبين مجتمعه الذي يعيش فيه، وتجرّع أقسى أنواع الاغتراب، إذ كان يعطي الأحداث والأشياء التي تحيط به فكرًا وسلوكًا تقييميًّا، لكن غيره ممن ينتمي إلى المرجعية الفكرية نفسها لم يكن كذلك بل ذهب يعمل ضد الذات الباحثة عن مشاعل الحرية والأمل والانعتاق. كل هذه البواعث عمقت الهوة الاغترابية، وأحدثت التنافر بينه وبين الآخر، ونشأ عن ذلك الشعور باللامعيارية والشعور بالعدمية والانسحاق

إن النص الاغترابي في شعر البردوني تميّز بين النصوص الاغترابية الأخرى بخصوصية التجربة واختلاف الوجهة والرؤية والأسلوب، فقد تجسد الواقع الاغترابي مع التجربة الإبداعية، واستطاع من خلال لغته الشعرية أن يعبر عن مضمون التجربة الاغترابية، فأصبحت اللغة اغترابًا والاغتراب لغة، واتخذ أنماطًا متعددة اجتماعية وعاطفية وسياسية ومكانية وزمنية وثقافية ونفسية، نذكر منها الآتي:

تنويه| يمنع نقل او اعادة نشر هذا المادة دون اذن مسبق من مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات والمؤلف د. صبري عفيف

1- الاغتراب الاجتماعي

هو شعور الفرد بعدم انتمائه إلى المحيط الاجتماعي التي ينتمي إليه، وغالبا ما تبرز هذه العزلة الاجتماعية عندما تكثر الصراعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية داخل المجتمع، فيرتد الفرد إلى ذاته ويكف عن التطابق والتعايش والتكيف مع الآخرين أو مع البنية الاجتماعية التي يعيش فيها ويسعى إلى أن تتطابق ذاته مع شخصيته وسماته هو، فيشعر بفقدان الهوية في الوقت الماضي والحاضر، وما يمكن أن يصير إليه في المستقبل([1])

ففي قصيدة (أنا الغريب) في ديوان (من أرض بلقيس) صُرِّح بلفظة الغريب المسندة إلى ضمير المتكلم (أنا)، وجَعْلُها عنوانًا للنص يمثل علامة دالة تلخِّص مضمون الفكرة التي يريد الشاعر التحدث عنها، وتعبر عن حال اليأس والحيرة المطبقة على الذات الشاعرة، بعد أن تغلفت بوجومها وغابت في صمتها المتواري وراء الهموم. يقول البردوني:

وأنا وحديَ الغريبُ وأهلي عن يميني وإخوتي عن يَساري

وأنا في دمي أسيرٌ، وفي أر ضـي شريـدٌ مقيَّـدُ الأفكـارِ

وجريحُ الإبـا قتيلُ الأماني وغريـبٌ فـي أمَّتي وديـاري([2])

إذا أنعمنا النظر في هذا النصِّ فسنجد أنه اشتمل على جميع أنواع الاغتراب: الاجتماعي والسياسي والفكري والنفسي والمكاني, فسيطر هذا الاغتراب على الذات سيطرة كاملة

إن غياب المخاطب في هذا النصِّ يحرِّك المشاعر الإنسانيَّة عند المتلقي, ويصبح حضور المتكلم هو جوهر الخطاب وعلَّته الأساسية (أنا وحدي الغريب)، وقد مثّلت هذه الجملة الاسمية المصدَّرة بضمير المتكلم بؤرةَ الاغتراب الاجتماعي الذي تعاني منه الذات داخل المحيط الذي تعيش فيه، وعمَّق هذا الشعورَ الحادَّ بالاغتراب إلصاقُ لفظةِ (وحدي) بلفظة (الغريب) للإخبار عن الضمير (أنا)، وبذا شخَّصت الذاتُ اغترابَها ونفيَها في موقف تضادِّي يفرض على القارئ متابعته عن طريق تأمل التقابل بين مأساة الذات المتكلمة (أنا وحدي الغريب) والمجتمع الذي يحيط بها (أهلي وإخوتي)

وجملة (أنا وحدي الغريب) ثرية الدلالة على حال الاغتراب وثبوتها على مستوى الوطن بشكل عام، وهذه قمة المأساة التي تعاني منها الذات في الوطن وفي المجتمع، ابتداء من الأسرة وانتهاء بالأمة

وجملة (كلُّ شيء حولي) توحي بشدّة الإحساس الاغترابي الذي يحيط بالذات من كل الاتجاهات, وعلى مستوى الجملة يقف ملفوظ النفي (غير) حاجزًا لغويًّا يمنع التواصل الوظيفي بين طرفي شبه الجملة الجار والمجرور (على ثأر), وهو ما يلفت انتباه المتلقي إلى وضعها المأساوي في علاقتها بالجماعة التي تعاقبه على جناية لم يرتكبها، و"قد يصل الفرد إلى مرحلة يكون فيها محاطًا بالآخرين، ولكن يتملكه في الوقت نفسه شعور بأنه بعيد عنهم نفسيًّا واجتماعيًّا، وذلك لأنه يشعر بأن التواصل الاجتماعي ضعيف أو أنه مبني على أسس نفعية"([3])

ويربط البردوني لفظة الغريب ربطًا نفسيًّا عميقًا بحال الاغتراب الاقتصادي (الفقر) الذي يعانيه الإنسان اليمني داخل وطنه، راصدًا رصدًا خاطفًا قسوة البشر والمجتمع على هذا المواطن الذي تقطعت به السبل، ووقف على قارعة الطريق يستجدي الناس، لعلهم يجودون عليه مما في أيديهم من النعم. ففي قصيدته (سائل)([4]) يقول:

مررتُ بشيخٍ أصفرِ العقـلِ واليـدِ يدبُّ على ظهرِ الطريقِ ويجتدي

ثقيلِ الخطا يمشي الهوينا بجوعِه وأحزانِه مشيَ الضريرِ المقيَّـدِ

ويُزْجي إلى الأسماعِ صوتًا مجرَّحًا كئيبًا كأحزانِ الغريبِ المشـرَّدِ

جاءت كلمة العنوان (سائل) - وهي عتبة النص - اسم فاعل نكرة تدل على العموم، وهذا التنكير دل على الاغتراب الاقتصادي والاجتماعي داخل المجتمع الذي يعيش فيه ذلك السائل، وجاءت لفظة الغريب مصاحبة للفظة المشرد في آخر المقطوعة، وهذه المصاحبة جعلت الصورة أكثر وضوحًا وأدق دلالة, وجاءت الألفاظ الأخرى داخل النص (مررت, يدب, الطريق, الخطا, المشي, الأحزان, المقيد, الجراح, الكآبة) لتؤدي وظيفة توضيحية مسبقة لمفردة الغريب المشرد التي اختتم بها المقطع

وفي قصيدة (من أغنَي)([5]) يقول البردوني:

هاهُنا في المنزلِ العاري الجديبْ أحتسي الدَّمـعَ وأقتـاتُ النحيبْ

هاهنُـا أشكـو إلى الليلِ وكـم أشتكي والليلُ في الصمتِ الرهيبْ

وأبـثُّ الشـعـرَ آلام الهـوى وأنادي الليلَ والصمـتُ يجيـبْ

فإلى مـن أنفـثُ الشكوى؟ إلى أيِّ سمعٍ أبعثُ اللحـنَ الكئيـبْ؟

وإلـى مـن أشتكـي الحبَّ إلى من إلى من ؟ إنني وحدي غريبْ!

عتبة النص (من أُغني؟) جملة استفهامية مركبة من أداة الاستفهام والفعل المضارع المصدَّر بالهمزة الدالة على الذات (أُغني)، ودلالة الاستفهام هنا مجازية وهي إظهار الحيرة والاستغراب والاستبعاد, فلمن يغني الشاعر؟ وتتوالى تلك التساؤلات في النص التي وصلت إلى حد الاستحالة, ولم يكن أمام الشاعر في النهاية إلا أن يصرح بأنه وحده الغريب ولا أحد غريب سواه (إنني وحدي غريب). وتكرار الصيغة الفعلية المضارعة (أفعل) في النص بشكل لافت كان بمثابة النقطة المحورية التي تحرك الأبيات وتحرك الدلالة الكلية للنص, لا سيما أن هذه الصيغة جاءت عتبة نصية ومن ثم تكررت في ثنايا النص الشعري (أحتسي، أقتات، أشكو، أشتكي، أبث، أنادي، أنفث، أبعث). كل هذا كثَّف التعبير عن معاناة الاغتراب والإحساس بها، ومثلت تلك الصرخات والنداءات المتكررة التي أصدرها الشاعر من أقصى جوفه وفؤاده عبر أصوات الحلق صخبًا إيقاعيًّا يعبر عن شدة وطأة الاغتراب عليه

ومثَّلت الألفاظ الآتية (أغني، الدمع، النحيب، الشكوى، آلام الهوى، الليل، الصمت، الرهيب، البث، الشعر، اللحن، الكئيب، الحب، وحدي، غريب، الجوى، النفث، اللهيب), حقلا دلاليا للاغتراب، سواء أكانت مصاحبة له أم مظهرًا من مظاهره، بحيث بلغت هذه الألفاظ (35) كلمة من (37), فضلاً عن تكرار ألفاظ الشكوى (4) مرات, والليل (4) مرات, وظرف المكان "هاهنا" (3) مرات، والصمت (مرتين), ووحدي (مرتين)؛ وأمام هذا الواقع الاغترابي أكد الفعل المضارع المصدَّر بالهمزة (أفعل) حضور الذات المغتربة وتوهُّجها في كل حدث يعبر عن زمنها الحاضر

وهذه الصيغة قريبة من الذات المغتربة؛ لأنها تحمل بوحه وصوته الغنائي الخاص الذي يحمل همومه وأحزانه وشكواه, وفي نهاية البيت الأخير نصادف الجملة الاسمية (إنني وحدي غريب) مصدَّرة بأداة التوكيد (إنّ)، تدل على الثبوت، وجاء خبرها لفظة (غريب) صفة مشبهة بالفعل على وزن (فعيل), والإخبار بالمشتقات يدل على الاستمرارية والملازمة. وبروز هذه الجملة الاسمية في النص الذي تكررت فيه الجمل الفعلية بكثافة مثَّل ملمحًا أسلوبيًّا التُفت فيه من الجمل الفعلية إلى الجملة الاسمية، مؤدِّيًا وظيفة دلالية رسَّخت معنى الاغتراب لدى الذات الشاعرة

إن الفعل في اللغة العربية يعبر عن زمن وقوع الحدث ويرتبط بنوع من الحركة، فهو المعبر الأول عن الزمن في اللغة وعن الزمن في الواقع, وفي مجال الشعر فإن استثمار الفعل ينطوي على بعدين هما: الحدث والزمن, وبارتباطه بالنسق السياقي الأفقي يصبح حضوره دالا عليهما, ويصبح حضوره أكثر دلالة حين تتوالد عنه العلاقات الأخرى الغائبة المحذوفة وجوبًا أو جوازًا([6])

وفي النص الاغترابي في شعر البردوني برزت الجملة الفعلية في شكل واضح يتجلى في دخولها الدائرة البلاغية, وأبرزها دائرة الاستعارة التشخيصية والتجسيمية, ويعد الفعل المضارع المسبوق بهمزة المضارعة (أفعل) أكثر الأفعال تردُّدًا, وقد تواتر بشكل بارز وحمل هذا التكرار طائفة متعددة من الأبعاد الدلالية والإيقاعية. فتكرار هذا الفعل بهذه الصيغة إنما يؤكد أن الذات الشاعرة في حال توهج مستمر، ويعلي شأن الذات المتكلمة الواعية بواقعها الاغترابي، ويكثّف حضورها؛ فصوت الهمزة بداية الفعل المضارع يعدُّ المرتكز الأساسي الذي ينبثق منه حضور الذات المتكلمة (أنا)، وتكرار هذا الفعل يؤكد أن الذات المغتربة حاضرة بذاتها الفردية. وإلى جانب هذه الدلالة يمنح الفعل المضارع المسبوق بهمزة المضارعة النص نوعًا من الإيقاعية المتولدة من التكرار

ومن يتأمل حياة البردونييرى أنها معقدة أشد تعقيد، عانى فيها الحرمان والقسوة والعزلة والوحدة والاغتراب منذ أن وطئت قدماه هذا الأرض، فهو لم يشعر يومًا بدفء الحنان، ولا رأى الكون والجمال، ولم يهنأ بزينة الحياة الدنيا بما فيها من مال وبنين، ولا قرأ في وجوه أصدقائه وخلانه ما في دواخلهم، وتجربة الاغتراب عنده تجربة مشبعة بالحزن واليأس والمرارة والألم

وإذا علمنا أن فقدان البصر بذاته يعد اغترابًا أزليًّا ممتدًّا على مدار الحياة، فهو المأساة الأولى التي أعاقت حياة الشاعر، فقد وصف نفسه قائلا: "إنّي أحمل المأساة منذ الخامسة، ولهذا عانيت طفولة شقية، وشبابًا شقيًّا، وكهولة أكثر شقاء، ورغم أن هناك من يرى أنني وجدت بديلا عن العينين؛ لكنني مازلت أحس مأساة غيابهما ... فلو لم تخمد هاتان العينان لأمكن أن يكون تفكيري أوفر"([7])، ومثّل الفقر والحرمان المأساة الثانية في حياة الشاعر، فقد ترعرع في أحضان الفقر والحرمان وكانت البيئة الاجتماعية التي تحيط به أكثر بؤسًا وحرمانًا، لذا انحاز للفقراء من أبناء أمته، ولم يكتف بذلك الانحياز بل أعلن أنه جزء منهم، إذًا فهو الحامل الوحيد لهمومهم وعذاباتهم وآلامهم، يسير على الدروب الشائكة، لا رديف له ولا داعم لصبره، لقد أيقن أن الشعر الذي لا يحمل رسالة ولا يخدم هدفًا اجتماعيًّا "يصبح نوعًا من الأصوات المجردة التي قد تكون جميلة وربما مفيدة في الظروف السوية والمجتمعات المتقدمة, ولكنها مهما يكن جمالها غير مفيدة ولا جميلة لدى المجتمعات التي تعاني التخلف والظلم السياسي والاجتماعي([8])، ففي قصيدته (لا تسألي)([9]) يقول:

وتهــاديـت كـأنـي أمــل يـرتمي فـوق بسـاط الـعدمِ

وأراني - آه - مهزوم المـنى وأنـا أحـنو عـلى الـمنهزمِ

أرحـمُ الـمحروم إحـساساً ولم تـدرِ كـفي كيـفَ شكل الدرهمِ

وأنـا أحـنو على الحاني وبـي حـسرة العانـي وجـوع العدمِ

إن النسيج الاجتماعي في المجتمع الذي يحيط بالذات الشاعرة تقطعت أوصاله، وأصبح الإنسان المعدم لا يُلتفت إليه، وهو ما عبر عنه البردوني في قصيدته (ليالي الجائعين)([10]):

وأنـوح للمـستضعـفين وإنني أشـقى مـن الأيـام والضعفاءِ

وأحسهم في سد روحي في دمي في نبض أعصابي وفي أعضائي

فكـأن جيـراني جـراح يحتسي ريّ الأسى من أدمعي ودمـائي

ناموا على البلوى وأغفى عنهم عطف القريب ورحمة الـرحماءِ

ما كان أشـقاهم وأشـقاني بهم وأحـسهم بـشقائهم وشـقائي

ولم تتوقف الأقدار في مرورها بأرض البردوني عند فقدان البصر والفقر والشقاء والحرمان، فتوالت عليه المصائب والأحزان بوفاة أمه وزوجه وضياع أرضه وطنه, فأصبح أسيرًا للحزن والجراح والألم، واحتمل من الهم والحزن ما لا يطاق. يقول في قصيدة(أمي)([11]):

آه يـا(أمي) وأشواك الأسى تُلهـبُ الأوجاع في قلبي المُذابِ

فيـكِ ودّعتُ شبابي والصّبا وانطوت خلفي حلاواتُ التصابي

كيـف أنساك وذكراكِ على سِفر أيـامي كتـابٌ في كـتابِ

إنّ ذكـراكِ ورائـي وعلى وجهـتي حيـث مجيئي وذهابي

ولم تكن مآسيه وحدها هي التي شكلت اغترابه الاجتماعي، بل كانت الأوضاع الاجتماعية بكل أشكالها هي البؤرة الأولى التي عمقت معاناة الاغتراب، مشكِّلة سلسلة متواصلة الحلقات من الفقدان والحرمان والإقصاء والتهميش

2- الاغتراب العاطفي: الحب حالة عاطفية مركبة تشمل كيان الإنسان جسدًا وعقلا وروحًا، وتقوم على أساس التوحد والثبات والاستقرار في الآخر، وتمتزج فيه عوامل عديدة مثل اندفاع الشهوة والانفعال العاطفي والهوى والعطف والتجاوب والمودة والنزوع نحو التضحية في سبيل مصلحة المحبوب وهنائه وسعادته. والإنسان الذي يفقد أحبابه تمزّقه الغربة؛ لأن فقدان الأحبة اغتراب، والبردوني عانى اغترابًا عاطفيًّا مركبًا منذ طفولته حتى وفاته، وفُرِض عليه الجوع العاطفي فرضًا، فقد كانت مشاعره نحو المرأة مضطربة، فهو لا يقف عند امرأة بعينها؛ بسبب المواقف والانفعالات النفسية المختلفة لديه

وتركز أكثر من نصف القصائد المتصلة بالمرأة في مجموعته الأولى، ثم خبت هذه الثورة المتأججة نحو المرأة المحبوبة وتضاءلت مع تقدّم العمر وتراكم الأحزان، وقد آثر الشاعر الاستسلام والابتعاد عن هذا الكائن اللطيف، وهو العاجز عن استمالته أو إرضائه، فإذا رضي عنها جعلها ملهمة يستوحي منها الفن والشعر والجمال فيحلق بحبها؛ ليحتضن الكون ويغني للخلد

وقد بلغ عدد النصوص التي يمكن إرجاعها إلى علاقة الشاعر بالمرأة أربعًا وخمسين قصيدة، احتوت الدواوين الثلاثة الأولى منها على معظم هذه القصائد، فقد بلغت ثماني وأربعين قصيدة، وغلب عليها الموضوعات الآتية: التغني بمحاسن المرأة، والتواجد الحزين، والمناجاة الرومانسية المتحدة مع الطبيعة والشكوى من الوحدة والوحشة والحرمان والفراق، ثم الفقدان والضياع والتيه، واليأس من الحب، والشعور بالفراغ، والإبعاد عن الحبيب، واسترجاع الزمن الماضي، والبكاء على المحبوبة الغائبة، والمناداة الضائعة، وزيارة بيت الحبيبة المهجور([12])

وكان الشاعر حينما يشعر بالاغتراب العاطفي شعورًا عميقًا يلجأ إلى الحبِّ ليوقف ذلك الشعور الحاد بالاغتراب محاولا اقتحام الجدران التي تفصله عن أحبابه؛ "لأن الحب التقاء وجداني ومادي، والغربة افتراق وجداني ومادي، والحب معادل موضوعي لاستمرار الحياة وخصوبتها، والغربة معادل لتوقف هذا الاستمرار، ومن هنا كان للحب قيمته العاطفية والمادية في نظر العربي"([13])، كما أن بمقدور الحب أيضا أن يخلص الإنسان من اغترابه وفقده وفقره، كما يرى هيجل، سواء أكان حبًّا إنسانيًّا أم صوفيًّا، ففي الأول تتواصل الذات مع ذات أخرى تؤنس وحشتها وغربتها، وفي الثاني تسمو الذات إلى مستوى أعلى فتكتسب خصوبة مع احتفاظها بتفردها([14]). ويستمر الشاعر قائلا في قصيدة (لقيتها)([15]):

لا،لا تقل لي: سمِّها، فجمالُها فوقَ الكنايةِ فوقَ كلِّ أسامي

إنِّـي أعيشُ لها وفيها إنَّهـا حبّـي وسرُّ بدايتي وختامي

وأُحبُّـها روحًا نقيًّا كالسّنـا وأُحبُّـها جسمًا مـن الآثامِ

وأُحبُّها نورًا وحَيـرةَ مُلـحدٍ وأُحبـُّها صحوًا وكأسَ مُدامِ

دَعني أغرِّد باسمِها مادام في قدحي ثمالات مـن الأنغـامِ

لقد دلت ّهذه الأبيات َعلى أن الحبَّ ولحظات اللقاء هي المحور الأساسي الذي تدور حوله القصيدة، فالحب الذي اعتمدت عليه الذات المغتربة للخروج من عزلتها واغترابها، تحول من أداة إيجابية تسهم في قهر الاغتراب إلى أداة سلبية تعمل ضد الذات وتزيد من وطأة الاغتراب، وتلك الإخفاقات في الحب تؤدي إلى اغتراب عاطفي يضاف إلى اغتراباته الأخرى

فعندما نتناول كلمة الحب فإننا نقصد بها تجربة الحب العاطفي، سواء أكان حبًّا لامرأة أم حبًّا للوطن. وعلاقة الحب بين الشاعر الكفيف والمرأة لم تكن علاقة قوية, بل كانت علاقة مؤقتة رافقت سن المراهقة، وهو الوقت الذي نظم فيه البردوني قصائد الحب والشوق والحنين بنفس رومانسي ممزوج بملامح صوفية, ففي قصيدته (منبت الحبِّ)([16]) يقول:

هاهنا لاح لنا الحبُّ وغابا وتشظَّى في يدِ الأمسِ وذابا

نبت الحبُّ هنا كيف غـدا في ترابِ المنبتِ الذاكي ترابا

هذه البقعةُ ناغـت حبَّنـا فصبا الحبُّ عليها وتصابى

وسقتنا الحبَّ صفوًا وهَنا ثمَّ أَسْقتناه ذكرى وانتحابـا

قصَّة تائهـة نقـرؤهـا من فمِ الذكرى فصولاً وكتابا

في هذا المقطع احتلت كلمة الحب الصدارة ابتداء من العنوان، ومرورا بالمتن، فقد تكررت كلمة الحب (5) مرات, والضمائر العائدة عليها (5) مرات, وهذا التكرار يدل على تشبث الذات بالموضوع الذي تتحدث عنه, بدءا من السطر الأول بظرف المكان (هنا) المتضمن معنى الإشارة والمصدَّر بحرف التنبيه (ها) للفت الانتباه إلى المكان الذي انطلقت منه تجربة الحب, وتكرار الظرف في البيت الثاني (نبت الحب هنا) تأكيد لأهمية ذلك المكان بالنسبة للذات

وإذا تتبعنا حركة الأفعال في البيتين الأولين فإنها حركة تضادية سريعة، طرفاها (لاح) من جهة و(غابا/ تشظى/ ذابا) من الجهة الأخرى. وهذا التضاد غير المتكافئ دل على غلبة لحظات الاغتراب على لحظة الاقتراب، وبدا الشاعر وكأنه يتحسر ويتندم على سرعة انقضاء لحظة المسرة والوصال

وفي البيت الثالث جاء اسم الإشارة (هذه) ليخصص ويحدد المكان المشار إليه (البقعة) وليزيل الإبهام والغموض عنه, وتبدو (هذه) أشد دلالة على القرب من (هنا)، كما أن لحوق البدل المعرفة باسم الإشارة زاده تعريفا

وحركة الأفعال في هذه الأبيات جاءت متفرقة تدل على فترات زمنية متباعدة، ابتداء من أيام الطفولة، ومرورًا بأيام الصبا، ووصولا إلى عمر الشباب (ناغـت، صـبا، تصـابى، سـقت) لتوحي برغبة الذات الشاعرة وتلذذها بتذكر تلك اللقاءات واللحظات الجميلة لعلها تستأنس بذكرها وتقهر بها الشعور الحاد بالاغتراب

وفي عجز البيت الرابع (ثم أسقتناه ذكرى وانتحابا) عطف الجملة الفعلية (أسقتناه ذكرى وانتحابا) بحرف العطف (ثـم) ليدل على التحول المأساوي غير المتوقع للحب الذي يصير ذكرى وانتحابا

3- الاغتراب السياسي: لقد أفرز الواقع الذي ترعرع فيه البردوني نوعًا من الاغتراب السياسي تحولت به الذات الشاعرة من اغترابها الاجتماعي والعاطفي إلى الهم الجمعي الوطني والقومي الذي اتسع امتداده ليشمل الوطن العربي، ففي منتصف القرن الماضي كان اليمن الشمالي يعيش تحت وطأة الأنظمة الملكية واليمن الجنوبي تحت سيطرة الاحتلال البريطاني، حيث عانيا الفقر والجهل والظلم والاستبداد والاضطهاد، وفي ذلك الوقت بدأت حركات التحرر العربية تبشر بالحرية والاستقلال والحلم بمستقل زاهر ومستقر، وقد عاش البردوني في ظل هذه الأوضاع السياسية المضطربة، فأعلن تمرده وصدع بأعلى صوته معلنًا الانحياز إلى جانب الشعب وثورته، ففي قصيدة (رحلة التيه)([17]) يقول:

هدَّني السجنُ وأدمى القيدُ ساقي فتعايـيتُ بجرحـي ووثـاقـي

وأضعتُ الخطوَ في شوك الدجى والعمى والقيدُ والجرحُ رفاقـي

ومـلـلتُ الجـرحَ حتى ملّني جرحي الدامي ومُكثي وانطلاقي

في سـبيل الفجر ما لاقيت في رحلة التـيه ومـا سوف أُلاقي

فبعد أن انتصرت أرادة الشعب وتحققت تنبأت الذات الشاعرة بفجر الحرية والاستقلال، نصف قرن من الزمن حوّل هذا الحلم إلى كابوس يؤرق الشاعر البردوني، وأصبحت الأنظمة الحاكمة أكثر قسوة واستبدادًا وجبروتًا من نظامي الإمامة والاستعمار، وضاقت أسباب العيش وتدنت الحرية والعدل والمساواة، وأصبح الإنسان اليمني يعرض نفسه للقتل والسجن والتشريد والموت الرخيص

ولا شك في أن البردوني امتزج بالوطن امتزاجًا كليًّا، وصار جزءًا لا يتجزأ منه، فكلاهما - الوطن والشاعر - عانيا تجربة اغتراب قاسية موحشة (اغتراب في الكلمة، اغتراب في الوطن، اغتراب في المكان، اغتراب في الكون)،.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


عدن تايم منذ 4 ساعات
المشهد العربي منذ 4 ساعات
المشهد العربي منذ 3 ساعات
صحيفة الوطن العدنية منذ 4 ساعات
صحيفة الوطن العدنية منذ 4 ساعات
صحيفة الوطن العدنية منذ 4 ساعات