دَلالةُ الرقص الفولكلوري في الموروث الثقافيّ العربيّ

ربيعة المنصوري

 

يشمل الموروث الثقافي العربي عدة فنون تدخل في ثقافته التي تميزه، من بينها الرقص الشعبي الذي يجسد حفريات تاريخية في حياة أي شعب، ومن ثم هويته وعنوانه، وتأمل المشهد العربي في فنون الرقص مشهد متنوع بأفكاره وأحلامه وطموحاته، مشهد يؤسس لطقوس تعبر عن مكنونات روحية تحيل على تاريخ وعادات وقيم.

 

ولادةٌ كونيّةٌ لرقصٍ إنسانيٍّ

تميز السلوك الإنساني العربي بتعبيرات فطرية لحظات الفرح والشجن نتجت عنها انفعالات وحركات خاصة، أصبحت فيما بعد طقوساً خاصةً يمارسها ويستنطق فيها أحاسيسه وأفكاره، ويتحدى بها عدوه، كما يجاري بها طبيعة المكان الذي يحتضنه سواء كان صحراءً أو جبلاً أو وادياً.. خلق لنفسه فضاءً حراً يلتمس فيه حريته، فابتكر حركات راقصة على وقع مواويل وأشعار تروي المكابدة مرة والانتشاء بقصص الحب مرة أخرى، رقصات تجاري الطبيعة في عنفوانها، فتفرقت وتنوعت حسب المكان والزمان، لتكون مجموعة من الرقصات تختلف في شكلها ولغتها وتعبيراتها، لكنها تتحد في التعبير عن المكنون واللانهائي الذي يسكنها، فالجسد لم يتحرك ولم يرقص إلا لفرح أو حزن أو مقاومة.
الولادة الأولى للتعبير الإنساني الحركي ولد معه وترعرع في ظل انفعالاته وتفاعله مع كل ما يجاوره ويحيط به من أحداث، فتكونت لديه حركات ألفها وأحبها؛ لأنها تعبر عن فرحه وغبطته، فاختلفت هذه الأخيرة من إنسان لآخر، ومن بيئة لبيئة، ومن محيط لآخر، فالرقص الشعبي نبع من عمق الأرض، ومن قلب العشيرة ليجسد الانفعال الصادق لحظة مواجهة الحدث.
 

سحر الانتصار في العلاقة بين الجسد وحركاته

تمكن الإنسان من التعبير عن ما يخالجه من أحاسيس ومشاعر، لحظة الانتصار على العدو، وساعات خروجه من معاركه الدفاعية عن أرضه حيناً وعرضه حيناً آخر، إلى جانب معاركه الخاصة لإثبات قوته وسيادته، من هنا انفعلت أحاسيسه مع جسده فخلقت رقصة "العيالة" و"الرزيف" مثلاً في بلاد الإمارات، حيث يتقابل صفان من الرجال في أيديهم عصي وتبدأ الرقصة بتقاربهم وتباعدهم ولعبهم بالعصي، وكأنهم في ساحة معركة، هي رقصة النصر تمتد فيها الروح لتعانق الجسد في لحظة فرح بنصر كبير، قد تدخل في هذه الرقصة ما يسمى بالنعاشات، وهن نساء يرقصن بشعورهن تعبيراً عن طلبهن للنجدة، فالمرأة حين تكشف عن شعرها في الثقافة العربية الإسلامية فهي تطلب النجدة، وتستغيث بمن يحميها، ومن ثم فالفرسان الذين يتبارون هم الأحق بحمايتهن من الخطر المحدق بهن.

ومن ثم فرقصة "العيالة" رقصة النصر والفوز في الحرب على العدو، يقابلها في بلاد المغرب العربي رقصة "العرفة" المعروفة في المغرب الشرقي، والتي يرقصها مجموعة من الرجال بزي موحد يتمثل في عباءات بيضاء فضفاضة تسهل الحركة، والعمامة البيضاء التي تزين الرأس وترمز إلى العنفوان، بالإضافة إلى التهاليل المزركشة التي تنتهي أهدابها بالخنجر الذي يرمز إلى القوة والانتصار على العدو. وتستعمل هذه الفرقة المزامير والدفوف لتسخين الإيقاع، الذي يجعل الجسد الراقص يرتفع ليعانق الروح، وحركات الأرجل تعبر عن العلو والغلبة.
 

العشق والفرح والجنون.. انفعالات تحكي رقصاً

منذ البدء والإنسان يعبر عن انفعالاته بجسده وأعضائه، يرقص فرحاً كما يغرد حزناً، لتشكل انفعالاته صورة جميلة من الإيحاءات المعبرة عن العشق الذي يعيشه، والفرح الذي يحس به، وعن عتبات الجنون التي يمكن أن يطأ عوالمها الخفية، تأتي هنا رقصة "التنورة" التركية الأصل والمصرية النشأة والانتشار، هذه الرقصة التي تتم على إيقاع يجعل الراقص يقوم بحركات سريعة دائرية، تجعله في الأخير يختفي داخل تنورته كفراشة بألوان زاهية، يهيم في عوالم الحلم لحظات خاصة يصل فيها عتبات إشراقية، لا يصلها إلا الهائمون بحب الباقي الحي الذي لا يموت... هي لحظات الأنس به والحلول فيه، هو رقص روحاني يرتفع فيه الجسد وتنتصر فيه نورانية الروح على الجانب الطيني الذي يجره إلى الخلف، هي رقصة البهاء فيها من الجمالية العشق المولوي، وفرحة الولوج إلى عوالم النور اللانهائي.
 

بالإضافة إلى رقصة التنورة هناك رقصة "كناوة" المنتشرة في المغرب والآتية من أدغال إفريقيا، فيها من الجنون الكثير، ومن العشق حكايات مختلفة يختلط فيها حب الجن للإنس، وكذلك قصص غريبة تحكي قدرة الجن على تحقيق الرغبات المستحيلة، ومن ثم فرقصة كناوة التي تتم في أجواء روحانية متميزة، وبإيقاعات سريعة لآلات خاصة كالمزامير والقراقب والطبول، رقصات تقام على شرف ملوك الجن مثل الجنية ميرة، ومليكة، والكناوي. ويبتدئ الرقص الهستيري الذي يدور فيه الجسد دورات متعددة لا يفقد فيها الراقص توازنه، ويعتمد على تحريك الرأس خصوصاً حين ترقص النساء بشعورهن وتسمى الجذبة، والغريب في الرقص الكناوي أنه ينتهي بالراقص إلى التوحد مع الجن لتكتمل رقصته بالسقوط مغمياً عليه، وسط بخور خاصة يختلط عبقها بالموسيقى المجلجلة، التي تثير النفوس قبل الأعضاء.

 

دلالات الوطن والعشيرة في الرقص الفولكلوري

تشتهر المنطقة الشرقية بالمغرب برقصة إمذيازن، وهو رقص يقوم به بعض الغجر يعيشون على هامش القبيلة، يسترزقون بهذا النوع من الرقص في المواسم الفلاحية، وفي الأعراس وباقي الاحتفالات، وهو رقص يعتمد في إيقاعه على الدف والمزمار والناي، وترقص فيه النساء إلى جانب الرجال بحركات ينظمها الشيخ، أو المايسترو الذي يسير الفرقة. ورقص إمذيازن رقص يعتمد الحركة سواء الدائرية والعمودية، كما تختلط ضربات أرجلهم بالأرض في دلالة خاصة عن انتمائهم للعشيرة وللوطن، يساندهم فيها حبهم الكبير للرقص وللأهازيج التي تختلط بحركاتهم معبرين فيها عن مكنوناتهم الخفية. هي رقصة الشمس الساطعة على الأكوان، وحركة الانتماء للاّنهائي، لنكهة القبيلة وعطر الوطن. تصطحبهم ألوان تعكس بهجة الطبيعة وخلودها، وتزين أثوابهم ورودها وأزهارها، لغة البقاء وصوت المجاهدة.

كذلك نجد من الرقصات المشهورة التي تعبر عن روح الالتفاف حول العشيرة وتجسد حب الوطن، هناك رقصة "اليوله" التي تُؤدّى بشكل منفرد، أو ثنائي أو رباعي، وتستعمل فيها البنادق للدلالة على القوة وحماية القبيلة أو الوطن، فينطلق الراقص في حركات سريعة ليرمي بسلاحه عالياً، ثم يقفز لأخذه مانعاً إياه من السقوط، ويتم الراقص رقصة اليوله بحركات سريعة على إيقاع الطبول، مستعرضاً سلاحه في لوحات جميلة... أما في المغرب فرقصة "التبوريدة" هي رقصة العشيرة المتراصة الحامية لحقوق القبيلة، حيث يقف "البار دية" وهو الاسم الذي يطلق على الراقصين، كل واحد منهم يمتطي فرسه ويحمل سلاحه، ومع صرخة العلام الرجل المسن الذي يقود الفريق، ويعطي الانطلاقة للفرقة، يتم الانطلاق سريعاً، وقبل الوصول يطلقون نيران بنادقهم في اتجاه السماء في لحظة واحدة، ليشكل المشهد احتفالية عجيبة تجسد القوة والانتصار.

أما رقصة الأطلس؛ أي رقصة "أحيذوس" فهي رقصة الفرح والانتماء للأرض، يتقابل فيها الرجال بالنساء في صفوف متراسة ليرقصوا على إيقاعات متناغمة، وتعتمد على حركات التباعد والتقارب لكلا الفريقين، التي تجعل كل راقص يتمتع بالكثير من الحرية في استقطاب راقصين آخرين من المتفرجين، للتحليق مع الموكب الدائري للراقصين، والإبحار في عوالم الحلم التي يتيحها الرقص الجماعي، الذي يؤكد على الانصهار الكلي في قلب العشيرة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها