"ذكريات لا تنسى مع الأديب الراحل"..

الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني.. قصص طريفة من عهد الأمام

الشاعر اليمني الكبير الأستاذ عبدالله البردوني

د. علوي عمر بن فريد
كاتب وباحث تاريخي جنوبي يكتب لدى صحيفة اليوم الثامن

في صيف عام 1986م كنت وأستاذي السيد عبد الله الأبيض في دمشق في زيارة خاصة وبحكم معرفته تواصل مع السيد محمد المؤيد الملحق الإعلامي في السفارة اليمنية بدمشق وتقابلنا سويا في أحد الفنادق وأبلغنا المؤيد بتواجد الشاعر اليمني الكبير الأستاذ البردوني في دمشق لطباعة كتابه "اليمن الجمهوري "..وقررنا زيارته وتوجهنا بسيارة المؤيد الدبلوماسية إلى المرجه وسط دمشق وصعدنا إلى الفندق حيث كان البردوني يسكن في قسم خاص أعلى الفندق وفوجئنا ببساطة الرجل والمكان ..ورحب بنا ترحيبا حارا ومعه زوجته السيدة الفاضلة فتحية وطلب منها فورا إعداد القهوة لنا ..وبعد أن شربنا القهوة أبلغناه بمرافقتنا إلى غوطة دمشق في مزرعة أحد أصدقاء أستاذي د. يونس الجاسم الذي كان في انتظارنا مع نخبة من المثقفين السوريين

وفي طريقنا إلى الغوطة كان الأستاذ البردوني يسرد لنا نكتا وطرائف حدثت معه في عهد الإمام أحمد فقال :كنا مجموعة كبيرة من الطلبة البصراء ندرس في المعهد العلمي بصنعاء وكانت لنا منحة نقدية كل شهر من الريالات الفرنصة العملة الفضية آنذاك في اليمن وكان المحاسبون أو ما يطلق عليهم "القباضون " يسرقون من معاشاتنا كل شهر حتى ضقنا بهم ذرعا وقررنا أن نشكوهم للإمام ..وبعد محاولات تمكنا من الحصول على الموافقة بلقاء الإمام فقال البعض منا سنكتب معروضا نشرح معاناتنا مع هؤلاء المحاسبين ..ولكن خشينا أن يستبدلوا المعروض بشيء آخر وبعد جدل اتفقنا أن نكلمه مباشرة ولكن على شكل نشيد كالتالي :
يا مولانا نحن البصراء جئنا إليكم نشكو القباضون الخ
وانفجر الإمام ضاحكا ولكنه أنصفنا من اؤلئك اللصوص .. ثم قال البردوني أسألكم بالله هل أسماء رؤسائنا في اليمن مناسبة ؟!! أقول الحق والله عندما تسمعها كأنها من برنامج ما يطلبه المستمعون علي عبد الله صالح .. علي ناصر محمد
ولكن اسمعوا لأسمي أنا "عبد الله البردوني " أسم يملأ اللقف " ..ثم قال بيني وبينكم أنا اسمي "عبد الله صالح الشحف "
سبحان الله العظيم على الحس الفكاهي عند أستاذنا البردوني كان يسخر من كل شيء حتى من نفسه !! وصلنا إلى الغوطة واستقبلنا بكل حفاوة وتكريم من قبل أصدقائنا الشوام والتقطنا العديد من الصور ولكن أستاذنا البردوني همس في أذني :
أرجو أن لا تنشر الصور !! ثم نقلنا إلى عالم الشعر وما صادف فيه من مواقف ولكنه قال حتى لا يقال أنني أمدح نفسي ستجدون كل شيء عني من الغير وحتى لا يقال مادح نفسه كذاب
وبعد البحث وجدنا قصة طريفة حدثت بين البردوني ونزار قباني
وهي كما يلي :

عُرف الشاعر الكبير عبد الله البردوني كأهم شعراء الوطن العربي في القرن العشرين، غير أن هناك جوانب إنسانية لم تُعرف عنه، ومنها أنه كان خفيف الظل وصاحب نكتة، وقد رويت عنه عددا من المواقف الطريفة ننشر بعضا منها:
نزار قباني والبردوني :
عندما أنتهي الأديب البردوني من قراءة ( أبو تمام وعروبة اليوم) تقدم إليه نزار قباني واحتضنه وعرفه بنفسه : أنا نزار
فرد البردوني ببديهية قل نزار- بفتح النون- ولا تقل نزار بكسرها فأنها تعني الشيء القليل فكان هذا اللقاء عربون صداقة بين نزار والبردوني
( المصدر البردوني الأعمال الكاملة)

الشاعر الذي نال جائزة أبي تمام بالموصل عام 1971
قبل أكثر من خمسين عاما تقريبا في بغداد تثاءب بعض الحضور في قاعة (ملتقى المربد الشعري) وأوشك آخرون على مغادرتها
لمّا قام شاعر يمني (كفيف)بشعره الأجعد وآثار (الجدري) تكسو وجهه وسار بهدوء
وهو يمسك بالرجل الذي يقوده وصعد إلى المنبر وهو يمسح أنفَه بِكُمِّ معطفِه
مما أثار بعضا من اللغط والدهشة في القاعة التي كانت تغصُّ بجمهور حساس محب للشعر.. تنحنحَ (عبد الله البردوني) ثم بدأ يقرأ قصيدته (أبو تمام وعروبة اليوم)
والتي يعارض بها قصيدة الشاعر العباسي (حبيب بن أوس) الشهير (بأبي تمام) التي يقول في مطلعها :

السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
فألقى (البردوني) قصيدته بصوت أخَّاذ، جميل، وبأداء تستحقه تلك القصيدة الجميلة، فقال :
ما أصدقَ السيف إنْ لم ينْضِهِ الكذِبُ
وأكذبَ السيف إن لم يصدق الغضبُ
أدهى من الجهل ، عِلْمٌ يطمئنُّ إلى
أنصافِ ناسٍ طغوا بالعلم واغتصَبوا
قالوا همُ البَشَرُ الأرقَى، وما أكلوا
شيئاً ، كما أكلوا الإنسانَ أو شربوا
وأدهشت المفاجأة الجميع !!!!
ووقف الحاضرون يصفقون إعجاباً بشاعر اليمن وفي القوم فطاحل الشعراء أمثال :
نزار قباني والبياتي وغيرهم إذ لم يكن من المتوقع أنَّ رجلا كفيفا بمثل تلك الهيئة يمكن أن يُفاجئ القاعة بمثل هذه الأبيات !!
وسجل (البردوني) إبداعه بأحرف من نور وهو يخاطب (أبا تمام) بقوله :
(حبيب) وافيتٌ من صنعاء يحملني نسرٌ وخلف ضلوعي يلهثٌ العرب وتصاعد البردوني في إلقائه حتى شدَّ الحاضرين من أدباء وشعراء، وجمهور على مستوى عال من الاستجابة، إلى قصيدته، وهو يقول :
تســـــعون ألفـــــــاً ل(عمّوريـة) اتَّقَدوا
وللمنجم قالـوا : إننـــــــــا الشُّــــــهُبُ
قيل انتظارِ قطافِ الكرم ما انتظروا
نُضْجَ العناقيـد ، لكنْ قبلَها التهبوا
واليوم تسعون مليوناً ، وما بلغوا
نضجاً ، وقد نضجَ الزيتونُ والعِنَبُ
ومثل هذين البيتين :
ماذا أحدِّثُ عن صنعاء يا أبتي؟
مليحةٌ عاشـقاها: السِّـلُّ والجرَبُ
ماتتْ بصندوقِ (وضَّاحٍ) بلا ثمنٍ
ولم يمُتْ في حشاها العشقُ والطرَبُ
أو مثل قوله :
ماذا أتعجبُ من شيبي على صِغَرٍ
إني ولدتُ عجوزا ، كيفَ تعتَجِبُ ؟

وعندما نزل عن المنبر ظل التصفيق يتوالى، ثم التفَّ حوله العشرات، في القاعة وفي صالة فندق الإدارة المحلية، وظل يستقبل العشرات من المعجبين، وهم يُشيدون بقصيدته، لأنه كان بحق نجمَ المهرجان .
وبهذه القصيدة التي لم تزل حتى اليوم عالقةً في الأذهان، فتحَ الشاعر (عبد الله البردوني) أولَ باب لشهرته، في المحافل الأدبية العربية وبين قراء الشعر وعشاقه

رحم الله البردوني إنسانا وشاعرا وأديبا
وإلى ما حدث له في (مربد) العراق الشعري الذي ألقى فيه قصيدته البائية التي استمع إليها كبار الشعراء والأدباء الحاضرين وجمهور الشعر والأدب.. وكانوا طوال إلقائها (سمع.. هس) رغم أنه عند دخوله إلى مسرح (المربد) لإلقاء قصيدته ببساطته وملبسه الشعبي اليمني.. وحالته الإنسانية لم يلفت الانتباه.. ولكن قصيدته وحروفها التي حملت أكثر من معنى.. وعبرت بصدق عن أحوالنا وبدايتها القوية وصداها الكبير. وكانت قصيدته الرائعة (أبو تمام وعروبة اليوم) في فترة السبعينيات الميلادية من القرن الماضي وفازت حسب ما عرفت بجائزة الشعر وبحماس وتقدير عشرات المبدعين العرب
ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب
وأكذب السيف إن لم يصدق الغضب والسؤال الذي تردد على أفواه الشعراء وأجاد في التعبير عنه
ماذا جرى.. يا أبا تمام تسألني
عفوًا سأروي.. ولا تسأل وما السبب
يدمي السؤال حياء حين تسأله
كيف اختفت بالعدى (حيفا) أو (النقب)

وعن الخوف والاستسلام للهزيمة والحزن.. وعن علوج الروم الغازية لممارسة بطشها بأسلحتها الحديثة
اليوم عادت علوج (الروم) فاتحة
وموطن العرب المسلوب والسلب
وكان أول شاعر وإنسان في عاصمة الرشيد «بغداد» يستعمل كلمة «علوج» التي كان يتشدق بها وزير الإعلام العراقي.. بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة
حكامنا إن تصدوا للحمى اقتحموا
وإن تصدى له المستعمر انسحبوا
الحاكمون و(واشنطون) حكومتهم
واللامعون.. وما شاعوا ولا غربوا
هم شموخ (المثنى) ظاهرًا ولهم
هوى إلى بابك الخرمي ينتسب
(ويستشهد بالفارس العربي الشهير المثنى بن حارثة الشيباني)
وبصراحة الشاعر الكبير الذي لا يرضى بأن يكون هذا حال الإنسان العربي.. يكرر سؤاله المنطقي :
ماذا ترى يا (أبا تمام) هل كذبت
أحسابنا.. أو تناسى عرفه الذهب
عروبة اليوم أخرى لا يلم على
وجودها اسم ولا لون.. ولا ذهب
وليعطي دلالة على أن إنسان اليوم بكل أصالة وإنسانيته العربية لا ينفصل عن ماضية وأمجاد الأجداد
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي
مليحة عاشقاها السل والجرب
ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن
ولم يمت في حشاها العشق والطرب

ويشير على عبد الرحمن إسماعيل.. شاعر اليمن الذي كان يلقب بوضاح لإشراقة وجهه
عشرات المواقف والقصص التي لا تمل وتنسى لازالت في الذاكرة.. عن اللقاء الأول والأخير مع الشاعر الكبير عبدالله البردوني.. أتذكر وأشعر بأنني قابلته وجلست إليه وأفخر به وأستاذيته وشاعريته. وحتى الآن وإن كانت بطن الأرض اليمنية ولادة.. فلم تعطِ بعد شاعرًا بقامته وشعره وأدبه. وسيبقى عطاؤه خالدًا في تاريخ الشعر العربي.. من أيام أبو الطيب المتنبي وأبو فراس الحمداني وعنترة بن شداد.. وأشعاره في قلوب كل اليمنيين والعرب...رحم الله شاعر اليمن الكبير الأستاذ عبدالله البردوني رحمة الأبرار ونسأل الله له المغفرة والرضوان فقد كان هامة تناطح السحاب وشعره كالنهر المتدفق بالخير والنماء والأدب .
د. علوي عمر بن فريد