الرحالة العرب والأجانب نسجوا حولها أساطير وحكايات

«الأهرامات».. منجم للأدب العالمي

الأهرامات المصرية
الأهرامات المصرية

حسن حافظ

لم تُجمع الأجيال البشرية على شيء عبر العصور المختلفة كما أجمعت على عظمة الأهرامات المصرية وتفردها، فكانت نقطة الجذب الرئيسية للسياحة فى العالم حتى قبل اختراع مفهوم السياحة الحديث منذ القرن التاسع عشر، فالثابت أنه منذ أيام هيرودوت فى القرن الخامس قبل الميلاد، والرحلة لزيارة الأهرامات طقس أساسى شارك فيه أبناء الحضارات المختلفة حتى العصر الحديث، وقد انتقل الاهتمام بالأهرامات من خانة الزيارة إلى الأدب المكتوب فتحولت الأهرامات إلى ظاهرة ثقافية بامتياز شارك فيها أبناء الثقافات المختلفة، وإن كانت الكتابة الأدبية عن الأهرامات فى مصر لا تزال متأخرة عن مواكبة الثورة فى الكتابة الروائية والقصصية عن الأهرامات.

الحكايات والروايات عن الأهرامات أخذت الطابع الروائى منذ البداية منذ عصر هيرودوت حتى العصر الحديث، فهيرودوت اليونانى وقف عاجزا أمام عظمة بناء الأهرامات، فردد بعض الأساطير حول عمل ابنة خوفو فى ماخور لسداد تكلفة بناء الأهرامات المرتفعة، لكن على كل حال أصبحت الأهرامات منجماً أدبياً لا ينضب عالميا، فكل الثقافات والحضارات العالمية اعتبرت الأهرامات معجزة الإنسانية الأكبر، لذا أصبحت زياراتها طقسا أساسيا للكثير من الرحالة اليونانيين والرومانيين والأوروبيين والعرب والفرس والبربر وغيرهم على مدار التاريخ الإنساني، فأصبحت الأهرامات ركنا أصيلا فى كتابة الرحالة العرب والأجانب الذين أطلقوا لأقلامهم العنان للكتابة عن الأهرامات بين الحقيقة والخيال.

ويبدو أن الاهتمام العربى الإسلامى بالأهرامات بدأ بشكل فعلى منذ زيارة الخليفة العباسى المأمون لمصر فى القرن التاسع الميلادي، عندما وقف منبهرا بعظمة الأهرامات وحاول إيجاد مدخل لمعرفة ما يحويه الهرم من أسرار، فكانت الفتحة الموجودة حتى يومنا هذا فى الهرم الأكبر، ومن هذه اللحظة تعددت النصوص التى تركها المؤرخون والرحالة المسلمون عبر التاريخ، من أمثال ابن عبدالحكم والمسعودى والكندى وابن زولاق وابن حوقل والبكرى والإدريسى وياقوت الحموى والقزوينى وابن بطوطة وابن خلدون والمقريزى وغيرهم، وكتاب الإدريسى (أنوار علوى الأجرام فى الكشف عن أسرار الأهرام)، هو من الكتب القليلة المخصصة للأهرامات قبل العصر الحديث، وتضم خلاصة الروايات التى شاعت عند المسلمين قبل العصر الحديث حول الاهرامات، ويمتزج فيها ما هو علمى بما هو خيالى بما هو أسطوري.

ومع اكتشاف اللغة المصرية القديمة مع حل رموز حجر رشيد فى القرن التاسع عشر، ترسخت مكانة الأهرامات كرمز سياحى وكرمز للغموض والإثارة، فدخلت الأهرامات باب الرواية الحديثة من أوسع الأبواب، إذ أصبح كتابة اسم الأهرامات على عنوان الروايات وسيلة مضمونة للترويج لها وتحقيقها النجاح المطلوب بأقل جهد فى الدعاية، لذا انتشرت الكتابة عن الأهرامات واستخدامها فى بناء أعمال قائمة على الخيال الممزوج بالتاريخ ذات الحبكة التشويقية، ربما تكون أشهرها وأكثرها نجاحا ونضجا رواية (الأهرامات) لروائى الخيال العلمى تيرى براتشيت، والذى نشر روايته عام 1989، وحققت مبيعات هائلة وحصلت على جائزة جمعية الخيال العلمى البريطانى فى العام نفسه.

 

ربما تكون رواية (الخيميائي) للروائى البرازيلى باولو كويلو، والتى نشرت عام 1988، أشهر عملى أدبى استخدم رمزية الأهرامات فى عمل روائي، فالرواية التى تبدأ براعٍ إسبانى يخوض غمار رحلة ليصل إلى الأهرامات المصرية حيث ينتظره كنز سيغير حياته، استخدم كويلو رمزية الأهرامات باعتبارها المكان الذى تتواجد فيه حكمة البشرية وكل آمالها، فالأهرامات تتحول فى النص الروائى إلى رمز لكل ما يسعى إليه الإنسان ولا يعلمه، كل الغموض والسحر والرغبة تتجسد فى الأهرامات التى يشد الإنسان الرحال لها، ومن المهم التذكير هنا أن الرحلة لزيارة الأهرامات المصرية كانت من التقاليد الأوروبية المغرقة فى القدم، والتى وظفها كويلو لبناء روايته وأحداثها، بينما كتب الروائى الألبانى إسماعيل كاداري، رواية (الهرم)، وهى رواية تدور حول بناء خوفو للهرم الأكبر، لكن المؤلف استخدم عملية البناء لانتقاد السلطات الألبانية فى الثمانينيات.

أما فى مصر، فقد بدأ فى العصر الحديث الاهتمام بالأهرامات أدبيا من بوابة الشعر، فنجد شعراء مدرسة الإحياء الشعرى يتناولون الأهرامات بالاعتزاز والفخر، وربما يكون محمود سامى البارودى صاحب السبق فى هذا كما يذهب الدكتور أحمد أحمد بدوى فى كتابه (الآثار المصرية فى الأدب العربي)، إذ تردد البارودى على الهرمين لمدة شهر كامل، ثم كتب شعره ومنه:

سل الجيزة الفيحاء عن هرمى مصر   لعلك تدرى غيب ما لم تكن تدري

أقام على رغم الخطوب ليشهدا لبانيهما بين البرية بالفخر

فكم أمم فى الدهر بادت وأعصر   خلت وهما أعجوبة العين والفكر

أما أمير الشعراء أحمد شوقى فلم يكتف بالقصائد الشعرية التى أطلقها فى حق الأهرامات، بل نراه يكتب قطعة أدبية رائعة الحسن والجمال فى كتابه (أسواق الذهب)، إذ يقول: اما أنت يا أهرام؟ أشواهق أجرام وأوضاح معالم؟ أم أشباح مظالم وجلائل أبنية وآثار؟ أم دلائل أنانية واستئثار وتمثال منصب من الجبرية؟ أم مثال ضاح من العبقرية؟ ... فى هذا الحرم درج عيسى صبيا، ومن هذا الهرم خرج موسى نبيًا، وفى هذه الهالة طلع يوسف كالقمر وضيًا، ووقعت بين يديه الكواكب جثيًّا، وهاهنا جلال الخلق وثبوته، ونفاذ العقل وجبروته، ومطالع الفن وبيوته، وهاهنا تتعلم أن حسن الثناء مرهون بإحسان البناءب.

 

ويعد نجيب محفوظ من الأدباء الذين تعرضوا للأهرامات فى أعماله، فلديه قصة معاصرة بعنوان (الحب فوق هضبة الهرم) نشرت فى مجموعة قصصية بنفس العنوان، لكنه كشف عن رأيه فى الأهرامات بشكل واضح فى روايته (أمام العرش)، وفيها يتعرض الملك خوفو لمحاكمة أمام أوزوريس عن أعماله، فيدافع الملك عن نفسه وعن بناء الهرم الأكبر قائلا: افتنت منذ صغرى بالدقة والنظام، وآمنت بأن يجب أن يكون لكل نشاط قوانينه وتقاليده... وأصبحت مصر مجموعة من التقاليد السامية والنظم الدقيقة، وهو ما أعاننى على تشييد أعظم بناء عرفه الإنسان، اشتركت فيه الألوف المؤلفة على مدى عشرين عاماب، ويكشف محفوظ نظرته للأهرامات على لسان خوفو الذى يقول: اشيدت رمزًا للخلود الإلهى يحوى من الأسرار ما لا يحيط به عقل بشرا، وتنضم إيزيس للدفاع عن خوفو وبناء الهرم الأكبر، قائلة: اهذا ملك منير مثل الشمس فى سماء العروش، وكم من إمبراطوريات تلاشت وبقى هرمه شامخًا، وطالما كانت عظمته مثار حسد لدى العاجزين من بنى وطنه والغرباءب، ليأتى حكم أوزوريس فى النهاية بقوله: ااجلس أيها الملك على كرسيك بين الخالدينب.

وقد سار جمال الغيطانى على درب أستاذه النجيب، ووقع فى غرام الأهرامات بصورة واضحة، إذ قضى ليلة كاملة داخل الهرم، ثم خرج منبهرا بهذه التجربة وكتب واحدا من كتبه الفريدة (متون الأهرام)، الذى يسرد من خلاله الحكايات والأساطير المتعلقة بالأهرامات، وقصص أشخاص وقعوا فى عشقها ومحاولتهم كشف أسرارها، وكل هذا ممزوج بروح صوفية ورؤى دينية ذات طابع روحانى وتجربة الغيطانى الشخصية مع الأهرامات التى يعلن بوضوح ولعه بها.

 

من جهته، قال الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، لـاآخرساعةب: اإن الأهرامات رغم عظمتها وشهرتها العالمية على مر العصور، وكونها نقطة جذب سياحى عالمى وإحدى عجائب الدنيا، فإنها لم تستغل أدبيا فى مصر بشكل يليق بحجم هذا الأثر الأعظم فى التاريخ، على عكس ما نجد فى الغرب من استغلال الأهرامات فى العديد من الأعمال الروائية القائمة على المزج ما بين الفانتازيا والتاريخ، وهى أعمال رائجة وتحقق مبيعات عريضة ويتم تحويلها لأعمال سينمائية ودرامية تحقق النجاح والانتشار، وهو ما لا نجده عندنا فى مصر حيث ينقص الأدب العربى عموما الاهتمام بالأهراماتب.

 

وأشار إلى أن الروائى جمال الغيطانى يعد نموذجا لاستدعاء الأهرامات فى عمل روائى كامل فريد التكوين، وهو عمله الفذ (متون الأهرام)، الذى كتبه من خلال منظور صوفى فلسفي، فجمع بين المصرى القديم والإسلامى وأنتج نصه المدهش والمختلف، وأضاف: الكن رغم ذلك الأهرامات كبناء وعمل ومفهوم ونظرية لم يتم توظيفها فى الأدب المصرى المعاصر بشكل كافٍ، ونتمنى أن يتم التركيز على مثل هذه الموضوعات فى المعالجات الأدبية فى الفترة المقبلة، خصوصا مع تزايد الحملات التى تريد سرقة الحضارة المصرية وخصوصا الأهرامات، ونزعها من الحضارة المصرية، ولن تكون حركة الأفروسنتريك الأخيرة فى هذا السياق، لذا استخدام الأهرامات فى قصص موجهة للنشء وروايات للكبار أصبحت فرضاً على المبدعين فى مصر حاليًاب.

نقلا من عدد أخر ساعة بتاريخ 3/5/2023

اقرأ أيضًا : الليلة.. عرض فيلم «ليلة قمر 14» بأولى فعاليات مهرجان المركز الكاثوليكي