عرض الرقص المعاصر "أرض لا تنبت الزهور" ... بلاغة مسرحية تليق باسم محمود دياب

ربما كان وصف (عرض مؤثر) أبسط ما يتبادر إلى الذهن عند مشاهدة عرض الرقص المسرحي المعاصر "أرض لا تنبت الزهور" المأخوذ عن مسرحية الكاتب الكبير محمود دياب والذي يحمل المهرجان القومي للمسرح اسمه في دورته هذا العام، فلقد استطاعت الرؤية المسرحية المعاصرة للمخرجة والكريوجرافر المتميزة سالي أحمد، أن تقدم المسرحية في ثوب مختصر لكن يلخص بعمق القيمة التي سردها النص الأصلي للكاتب الكبير، واستطاعت أيضاً أن تقدمها في لغة الرقص المعاصر الممزوج بالحوار المسرحي بشكل رومانسي مؤسي وبليغ.

في مثل تلك العروض التي تجمع بين الإطار المسرحي التقليدي القائم على الحوار بين الشخصيات، والتعبير الإيحائي من خلال تكنيك الرقص المعاصر، اعتاد الجمهور أن يلعب دور الشخصية اثنان؛ واحد يقدم الأداء التمثيلي وآخر يقدم الأداء الراقص، ولكن هذه المرة نشاهد البطل والبطلة يقدمان كلا الأدائين التمثيلي والراقص في نفس الوقت، وهو ما لم نكن واعين لإمكانية حدوثه بإمكانايات الفنانين المصريين الحاليين، واستطاعت سالي أحمد أن تفصح عنه بسلاسة شديدة، عندما اختارت الممثلة والراقصة ريم أحمد لتلعب دور الزباء (زنوبيا) ملكة تدمر والممثل والراقص طه خليفة ليلعب دور عمرو بن عدي ملك الحيرة.

المبهج بالفعل أن طه وريم زوجان في الحقيقية، وربما لعب ذلك دوراً كبيراً في حالة الانسجام الهارموني الشديد بينهما على خشبة المسرح، لكن الجميل أيضاً أن نعرف أن هناك بيتاً في مصر يضم موهبتين شاملتين وكبيرتين تستحقان تسليط الضوء عليهما واسناد أدواراً متنوعة لهما في المستقبل، تترجم لنا حالات درامية كثيرة تفتقدها ساحتنا الفنية، فقط لأننا كنا نعتقد أنه لم يعد لدينا نموذج الفنان الشامل.

جاء عرض "أرض لا تنبت الزهور" في ثوب مغاير لتلك العروض المسرحية المستوحاة من التراث والتي غالباً ما تحمل في طياتها معانٍ فلسفية عميقة يتم ترجمتها من خلال أدوات مسرحية مقعرة تستهدف مشاهد من نوع خاص، فلقد ارتدت هذه المسرحية ثوباً رومانتيكياً رائقاً، يسحب الأنفاس ويحملنا على جناحيه نحو سماوات عذبة ومبهجة، رغم مأساوية النص الذي يتباكى على معاني الحب والخير والجمال، التي لا يمكن أن تنبت في أرض قاحلة تملؤها الكراهية والحقد، بشكل يحمل الكثير من الإسقاط على حال زماننا، رغم أنه يسرد قصة تاريخية وقعت أحداثها في منتصف القرن الثالث الميلادي.

لطالما كانت قصة الملكة زنوبيا التي قُتلت بيد حبيبها الشاعر عمرو بن عدي أو انتحرت في رواية أخرى وهو ما تبناه نص العرض الذي نكتب عنه الآن، مصدر إلهام لكثير من الشعراء والكتاب على مدار العصور، فهي تجسيد لما يمكن أن يكون عليه الإنسان، عندما ينتصر داخله الحقد والغل على الحب، ولقد تم تجسيد هذه القصة التراثية على خشبة المسرح كثيراً من قبل، لكن هذه المرة تأتي القصة المأخوذة عن نص محمود دياب، في شكل يروي لغة جديدة سواء على مستوى المعالجة النصية نفسها، حيث تجسيد التشتت بين الحب والحقد، أوعلى مستوى تصميم الرقصات التي عبرت عن التوتر الذي ينهش جسدا البطلين ويجعلهما في حالة مجهولة بين الوعي بالحياة وغيابها تماماً عن جسديهما، بين الإحساس بالقوة والسلطان وبين الإحساس بالقهر والعبودية أمام هذه السلطة التي تسلب الإنسان أبسط ارتجافات تنبت على كف العشق.

استعانت المخرجة سالي أحمد ببعض من تقنيات السينما على خشبة المسرح، فمن خلال الإضاءة نقلت لنا أسلوب القطع في المشاهد السينمائية، بل والمزج والتداخل بين مشهدين، كما تمكنت أيضاً من تقريب الصورة بتجسيدها في عمق المسرح، من خلال الإظلام التدريجي والانسيابي للإضاءة على خشبة المسرح حتى لا يتبقى لنا سوى بقعة ضوء تجسد لنا الصورة التي ترغب في تركيز أعيننا عليها.

لعبت الألوان دوراً كبيراً في هذه المسرحية، فلقد كانت بشكل كبير الناقل المباشر للمشاعر التي تؤهلنا لها المخرجة كي نستقبل المشهد الجديد بالصورة التي ترغبها تماماً، وذلك من خلال ألوان الإضاءة التي تراوحت بين الأحمر الدموي الذي يمتزج بالأسود، والبنفسجي القاتم الذي يعبر عن الحب المكبوت في الصدور. جاء اختيار ألوان الملابس متناسباً بدقة مقصودة مع ألوان الإضاءة وكان تصميم الأزياء مميزاً في حد ذاته، فلقد استطاع مصمم الأزياء أن يجمع بين أسلوب العصر الذي تدور أحداث المسرحية فيه، وبين الخطوط المناسبة للحركات الراقصة التي تتطلبها طبيعة العرض الراقص.

ولايمكن أن نغفل الإشارة إلى موسيقى العرض، التي ساهمت بشكل كبير في جذب المشاهدين واندماجهم تماماً مع العرض، واستطاع مؤلفها أيضاً أن يمزج بين روح عصر المسرحية، وروح العصر الحالي وتحديداً في المشاهد التي تُفصح عن اختيار الانتقام والحرب على الحب.

منذ زمن لم أشعر بأنني لا أرغب في مغادرة المسرح، لكن عرض الرقص المعاصر "أرض لا تنبت الزهور" أعاد لي تلك الرغبة، فأنا لم أكن أرغب في أن يُسدل الستار وتنتهي المسرحية من فرط بلاغتها الفنية التي شملت كل العناصر بلا استثناء، فخرجت تليق حقاً باسم محمود دياب، وتؤكد أن المسرح المصري باقٍ لأبد الدهر.


أمنية طلعت

لعرض أو إضافة تعليق، يُرجى تسجيل الدخول